د. سلطان بن منصور الشريف
جميع الصور بعدسة الكاتب.
المدينة المنورة محمية طبيعية منذ أكثر من 1400 عام، ولم تزل كذلك حتى يومنا الحاضر، فقد أسهمت التعاليم الدينية في جعلها كذلك منذ أن منع النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – الصيد فيها، كما منع قطع نباتاتها وأشجارها، فأصبحت بذلك محمية حيوانية ونباتية في آنٍ واحد.
وقد ورد عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – في صحيح مسلم أنه قال: “إن إبراهيم حرَّم مكة، وإني حرَّمت المدينة ما بين لابَتَيْها، لا يُقطع عِضاهُها، ولا يُصاد صيدُها”. صحيح مسلم.
وقد التزم المسلمون الأوائل بهذا الأمر، كما التزم القاطنين في المدينة المنورة التي حفظت السنة النبوية طبيعتها الفطرية من نباتات وحيوانات. وبهذا حافظت سنة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – على جمال المدينة المنورة وعلى بيئتها الطبيعية منذ ذلك الحين.
التضاريس
تتميز المدينة المنورة بطبيعة جغرافية ذات بيئات مختلفة، مثل: الجبال، والأودية، والحرات، والسباخ، والسواحل البحرية، التي جعلت من طبيعة منطقة المدينة المنورة ذات تنوع أحيائي مميز.
كُتب في المدينة المنورة كثير من الكتب، وحظيت باهتمام المسلمين في مختلف دول العالم، لكن الكتب التي اهتمت بالحياة الطبيعية الفطرية في المدينة المنورة قليلة جدًا من بينها: كتاب “الحياة الفطرية في منتزه البيضاء البري”،
وكتاب “الطيور الشائعة في المدينة المنورة”، وكتاب “النباتات البرية في وادي العقيق المبارك” مزودًا بالعلاقات البيئية: طيور وحشرات، وكتاب “النباتات البرية في جبل أحد”، وكتاب “النباتات البرية في وادي قناة”، وكتاب مقتطفات من التنوع الأحيائي في البحر الأحمر (حيوانات – نباتات – أحياء دقيقة)، ومن خلال هذه الإصدارات وإصدارات أخرى، جرى توثيق التنوع الأحيائي الفريد لبيئة المدينة المنورة.
الدراسات
حظيت الحياة الفطرية في المدينة المنورة ببعض الدراسات العلمية التي بيَّنت أن أكثر النباتات البرية تميزًا في المدينة المنورة هي: المورينجا العربية، والإذخر، والسمر، والجميز، واليثب، والعرن، والتين “حماط”، والسرح، والتنضب، والهجليج، والغاف الخليجي.
وبيَّنت الدراسات أيضًا أن الحيوانات النادرة في المدينة المنورة، التي رصدتها الدراسات الميدانية، تتمثَّل في الوشق، والذئب، وسحلية (Pseudotrapelus aqabensis) (الصورة 1)، والضبع، والوعل، والقط الرملي، وثعبان الصل الأسود (الصورة 2).
وعلى الرغم من حرص الباحثين على رصد الحياة البرية الليلية في المدينة المنورة، فإن التجهيزات لم تتح إلا لرصد بسيط لتلك البيئة الواسعة، حيث جرى رصد بومة في حرة رهاط حجمها ضخم، ويبلغ ارتفاع جسمها مترًا واحدًا تقريبًا.

النقوش
من أجل التوغل بعيدًا في الجذور، بحث مختصون في الحياة الفطرية، بمشاركة منقبي آثار، في سبر أغوار التاريخ، لتوثيق الحياة الفطرية الحيوانية. فقد تضافرت الجهود في مبادرة علمية طموحة، انطلقت في عام 1417هـ، لدراسة وتوثيق الحيوانات المنقوشة على الصخور (الصورة 3) وبقاياها التي لا تزال في الكهوف (الصورة 4). وقد أثمرت الجهود عن كشوفات أثرية لحيوانات كانت تعيش في المدينة المنورة منذ عصور تاريخية بعيدة قبل أن تنقرض، ومن بينها: الأسد، والنعام، وبعض النوادر التي تحتاج إلى دراسة مستفيضة مثل وحيد القرن والفيل* (الصورة 5)، وغيرها من الحيوانات الكبيرة المنقرضة.
وقد عكست تلك النقوش التنوع الأحيائي المفقود في المدينة المنورة، وأسهمت في فهم كثير من التغييرات البيئية التي حدثت على مر العصور، وكشفت عن إمكانية إعادة توطين ما يتناسب مع البيئة الحالية، بما يحقق نجاحًا بيئيًا واعدًا.
وقُبل مؤخرًا بحث علمي بمجلة Biogeography الأمريكية نتيجة عمل مشترك بين جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية “كاوست” وجامعة طيبة يوثّق هذه المبادرة بشكل مفصل تحت عنوان: (The Lost Large Mammals of Arabia).
أحياء مائية
تزدهر البيئة البحرية التابعة لمنطقة المدينة المنورة بموائل ساحلية، وحصائر طحالب شاطئية، تؤدي دورًا بيئيًا مهمًا، إلى جانب مخلوقات الحيد المرجاني والشعب المرجانية، التي تعدُّ من أغنى مجتمعات التنوع الأحيائي على سطح الكوكب، وتزخر بجمال طبيعي خلّاب يفوق الوصف.
وتعدُّ الشعب المرجانية في البحر الأحمر أحد أسس الاستقرار البيئي للأحياء المائية المختلفة، فهي تعمل كالأشجار في الغابات المطيرة، لتحمي الشواطئ من الأمواج. ويوجد في البحر الأحمر أكثر من 200 نوع من الشعب المرجانية، يعيش حولها عدد هائل من الكائنات الحية البحرية؛ إذ يزخر الحيد المرجاني بمخلوقات متفاعلة بعضها مع بعض ضمن عمليات حيوية وتكافلية مميزة، مثل شقائق النعمان (الصورة 6)، التي تعيش إلى جانبها سمكة البهلوان أو المهرج (Amphiprion bicinctus)، وتُعدُّ السلاحف من الكائنات البحرية النادرة، ومن بينها ما هو مهدد بالانقراض وفقًا للاتحاد الدولي لصون الطبيعة كالسلحفاة صقرية المنقار (الصورة 7)، الذي يُعدُّ التلوث بالبلاستيك أكثر ما يهدد حياتها.
وبالرغم مما تشكله الشعب المرجانية من أهمية اقتصادية وطبية كبرى على المستوى العالمي، فإن أعدادها قد تناقصت بشكل ملحوظ في العالم، وذلك لأسباب مختلفة أهمها الأنشطة البشرية الجائرة.
ومن أجل الوصول لمعرفة علاقة الأحياء البحرية بعضها ببعض، عمد باحثون من جامعة طيبة في عام 2022 إلى مبادرة هامة تمثَّلت في دراسة علاقة المرجان بالأحياء الدقيقة (الشريف وآخرون 2022)، وقد خرجت بنتائج وتوصيات مهمة.
بيئة ساحلية
تتجمل المناطق الساحلية بأشجار المانجروف المعروفة باسم القرم أو الشورى (الصورة 8)، وهي نباتات تؤدي أدوارًا مهمة في الحياة على الكوكب، وفي مقدمتها أدوار بيئية واجتماعية واقتصادية. وفي دراسة علمية أجراها باحثون من جامعة طيبة (الشريف وآخرون 2024)، أظهرت نتائجها أن هذه الأشجار تُسهم في تخليص البيئة البحرية من الملوثات الصناعية، في الوقت الذي تتناقص فيه أعداد تلك الأشجار منذ العقود الثلاثة الماضية، وهو ما جعل الجهات الرسمية تقوم بمبادرات وبرامج لإعادة توطين هذه الشجرة باستزراعها مجددًا، وقد حققت نجاحًا باهرًا على مستوى المملكة ككل.
طيور
للطيور بيئتها الخاصة في المدينة المنورة، منها الطيور المقيمة مثل: بلبل أصفر العجز (نغري)، ومنها الطيور المهاجرة التي ترسم عدة مسارات على شاطئ البحر الأحمر عند عبورها للمملكة العربية السعودية، مثل طيور الفلامنجو، التي تُعدُّ ضمن قائمة أجمل الطيور المهاجرة التي تحطُّ رحالها على سواحل المدينة المنورة (الصورة 9). ومن بين الطيور النادرة في المدينة المنورة طائر القطقاط، والحنكور، والعقاب النساري (الصورة 10).
وتُسهم الطيور المهاجرة بعدة منافع بيئية، من بينها: موازنة أعداد القشريات، والقواقع الشاطئية، ومكافحة الملايين من الحشرات والآفات التي تهدد الإنتاج الزراعي، وتخلص البيئة من الحيوانات النافقة، فضلًا عن أهميتها في تلقيح أزهار النباتات، ويُعدُّ أي نقص في أعداد الطيور
أو فئاتها ناقوس خطر يدل على تدهور مجموعة من النظم البيئية؛ ذلك أن السلاسل الغذائية تتعقد، لتؤكد لنا أنَّ غياب طائر أو نبتة أو سمكة يتبعه خلل في المنظومة البيئية، قد لا نتصور أبعاده.
كشوف ميدانية
كشفت الجولات الميدانية التي قام بها باحثون، خلال العامين المنصرمين، عن نجاح المبادرات التي قامت بها الجهات المعنية والناشطون البيئيون في المملكة، حيث استعادت البيئة الطبيعية عافيتها ونشاطها الفطري في المدينة المنورة؛ إذ رصُد مجددًا طائر الحجل، وطائر الغطاط، وطائر الشنير، والأرنب، والوعل وذلك بشكل تدريجي في مواقع غابت عنها هذه الكائنات خلال العقود الثلاثة الماضية (الصورة 11 لقطة حديثة توضح تكاثر الوعل في البرية). كما لوحظ أيضًا ازدهار المراعي الخضراء وقلة الاحتطاب، وهو أمر يشير إلى زيادة الوعي المجتمعي بالبيئة الطبيعية والحياة الفطرية، وتطبيق الأنظمة واللوائح التي أقرتها الدولة وجهود كلٍ من المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية والمركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر، ومتابعة مميزة وضبط من القوات الخاصة للأمن البيئي. وهذا خير شاهد على تضافر الجهود في الإحسان للحياة الفطرية ودفع الضرر عنها، وهو مُخرج نهائي واعد للطبيعة التي ستمدنا – إن شاء الله – بحياة كريمة آمنة ومستدامة.
*تم الإستدلال عليهما أثناء البحث العلمي الذي قام به الكاتب بتعاون د. عبد الله كابر وأ. محمد المغدوي