لا تفوِّتوا زيارة
جمال بلادكم
أول ما سحره من طبيعة المملكة؛ كان جبل أجا في حائل القديمة. صورة شاهدها في كتاب لمستشرقة بريطانية سافرت من بغداد إلى حائل مع بداية الحرب العالمية الأولى (1914م)، والتقطت صورًا للمكان. وبعد أكثر من نصف قرن شاهد صورة الجبل في كتاب لها.
عندها قرّر أن يقف في المكان عند أول زيارة له في السعودية.. وهذا ما حدث سنة 1973م؛ لتبدأ قصته التي تطورت لاحقًا مع الطبيعة السعودية، ومع الحياة الفطرية، وهاهو اليوم ناهز الحادية والسبعين، وما زال محتفظًا بسجلّ ذاكرة لا يقل عمرها عن 4 عقود في معالم المملكة الطبيعية والبيئية والفطرية.
عصام الحاج
نموُّ النموُّ
على مكتب مزدحم بالكتب بالأوراق والصور والأدوات، يُكبُّ السيد عثمان لولن على عمله في التخطيط البيئي، متابعًا نشاطًا بدأه منذ 1982م، حين قدم إلى المملكة، منطلقًا من مركز أبحاث الحج. وفي 1986م، بدأت قصته الفعلية مع الحياة الفطرية، فصار واحدًا من شهود العيان على “نموِّ النموِّ” في العناية بالكائنات والبيئات، حتى تكامل المنظومة البيئية السعودية في تعاملها مع أكثر من 10 آلاف نوع أحيائي، في 65 بيئة حيوية.
الشاب الذي تعلم اللغة العربية في جامعة بنسلفانيا، اشتعل رأسه شيبًا، لكن المدهش هو أن لسانه ذا اللكنة الأمريكية في اللغة الإنجليزية صار عربيًا فصيحًا، وعلى نحو لا يخلو من وقفات هنا أو هناك بحثًا عن كلمة أنسب وأصلح لسياق العبارة التي يُريدها.
بدأت الحكاية!..
فتح قلبه قبل ذاكرته، ليسرد قصة الرحلة التي بدأت بدخوله في الإسلام، واختياره اسمًا له ارتباط أيضًا بشيء من البيئة الفطرية التي يعشقها ضيفنا.
جاء إلى السعودية عام 1973م، ثم عام 1976م، قبل أن يستقرّ مقيمًا فيها، ويعمل رسميًا في الحقل البيئي. يقول: “أنا مقيم في هذه البلاد منذ سنة 1982 ميلادية، إلا أنني زرتها أول مرَّة في 1973 ميلادية حاضرًا المؤتمر الثاني للندوة العالمية للشباب الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت رأيت هذه البلاد وما فيها من خيرات، وقررت أن أعمل فيها”.
ما بين مركز أبحاث الحج ومصلحة الأرصاد وحماية البيئة، شارك في مسح الأماكن وتحديد المناطق الطبيعية ودراستها.. “هذا العمل أتاح لي الذهاب إلى كثير من الأماكن في البلاد. وبعد تأسيس الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها في 1986م رأيت أن من المفيد الالتحاق بها، فانتقلت إليها رسميًا عام 1989م، وبقيت فيها حتى تحولت إلى المسمى الجديد (المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية) وما زلت إلى الآن”.
المستشرقة وجبل أجا
يعود السيد لولن إلى الصورة الأولى التي شدّته إلى السعودية، في كتاب قديم.. “بدأت القصة بشكل جميل. في بغداد، إبّان الحرب العالمية الأولى، كانت هناك مستشرقة بريطانية اسمها كيرشول بيل. تعمل مستشارة في المكتب البريطاني في بغداد. زارت الآنسة بيل حائل عام 1914م، ونجحت في التقاط صور لجبل أجا وأماكن أخرى. وبعد ذلك بسنوات شاهدت إحدى هذه الصور، فقلت في نفسي: هذا أجمل ما رأيته في وجه الأرض.. وقررت أن أزور المكان في أول فرصة تتاح لي.

وبالفعل، في الزيارة الأولى إلى هذا المكان سنة 1973م، وجدته أجمل بكثير مما توقعت، وكان أجمل حتى من الصور التي شاهدتها والتقطتها تلك المستشرقة.. في عام 1976م، زرت جبل أجا مرَّة أخرى. المكان الآن جزءٌ من محمية الملك سلمان الملكية”.
أجمل ما رأيت!
من قبيل الوله والولع بالأماكن يقول السيد لولن: “أود أن أخبركم بأنني زرت العديد من الأماكن الجميلة في العالم، من جنوب شرق آسيا، إلى تركستان، إلى وسط إفريقيا وغربها، إلى أمريكا الشمالية والجنوبية، إلى أستراليا.. رأيت الكثير من أجمل الأماكن على وجه الأرض، لكنني لا أعتقد أن هناك مكانًا أجمل من هذه البلاد. أنا سعيد جدًّا لأن الله (جعلني) هنا لأشارك في العمل على حمايتها”.
ومجددًا يعود السيد لولن إلى جبل أجا: “ما زال هذا المكان قريبًا من قلبي. تتميز قباب وقمم الجرانيت والتضاريس الموجودة فيه بجمالها الرائع. إنها أيضًا
موطن لنظام بيئي فريد من نوعه يستحق الحماية”.
يسترسل ضيفنا في الحديث عن الطبيعة السعودية، قائلًا: “هذه البلاد جافة وقاحلة، لكن النباتات والحيوانات تمكنت من العيش فيها منذ مليون عام. حدث ذلك خلال فترات مختلفة، عندما كانت شبه الجزيرة العربية أكثر رطوبة. ثم مع التحوّلات الكُبرى تراجعت النباتات والحيوانات إلى أكثر الأماكن برودة ورطوبة، مثل الجبال والوديان.
وتشمل هذه الأماكن جبل أجا في حائل، وجبل دبا قرب يبرين، وجبل اللوز في نيوم، ووادي الديسة في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية، وجبل رضوى غرب المدينة، وجبل بثره جنوب الطائف، وجبل شدا في الباحة، وجبل القهر ووادي لجب في جازان… هذه الأماكن كلها جميلة ومثيرة للاهتمام، وقد زرتها جميعًا.
هذه المواقع تشمل مناطق التنوع الأحيائي المهمة لتكوين أنواع جديدة من النباتات والحيوانات. وهي مهمة لفهم التغيرات المناخية العالمية. وهي فريدة ومنفصلة عن غيرها في أنحاء العالم. يجب الحفاظ على هذه البقعة البيولوجية الثمينة على اليابسة في هذه البلاد لتمكين هذه العمليات الطبيعية في المستقبل.
سابقًا.. ومستقبلًا
أتذكر عندما بدأت العمل في السعودية، كان هناك عدد قليل من الطرق المعبدة الكبيرة في البلاد. مثلًا: هناك طريق يمتد قريبًا من محاذاة الخليج العربي في الشرق، وآخر مماثل مع البحر الأحمر في الغرب. كان هناك أيضًا طريق في الوسط يربط الدمام والرياض والطائف ومكة وجدة. وكان هناك طريقان على الحدود الشمالية، وطريق آخر من الرياض إلى القصيم وحائل. أما الطرق الأخرى، فكانت في معظمها ترابية غير ممهدة.
وبالطبع، كانت هناك طرق ممهدة داخل المدن.
تبلغ مساحة المملكة أكثر من مليونين وربع مليون كيلومتر مربع، وهي موطن لتنوع كبير من النباتات والحيوانات والتضاريس. ومع ذلك، فإن التنمية السريعة فيها، وكذلك في دول الخليج الأخرى، قد تشكل تهديدًا لهذه الثروة الطبيعية.
هناك دول كثيرة تواجه مشاكل مماثلة، منها الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، مثل زيادة استهلاك الموارد والإسراف، وزيادة النفايات؛ وهو ما يشكل تهديدًا للبيئة. في الوقت نفسه، تواجه الدول النامية بعض التحديات المشابهة، مثل زيادة عدد السكان بشكل سريع، والتصحر نتيجة للرعي الجائر واستنزاف الموارد.
لكن المستقبل أكثر إشراقًا؛ فإدراك الآثار البيئية السلبية للتصحر، وإقرار قانون بيئي جديد، ومبادرة السعودية الخضراء.. كل ذلك يعكس التزام المملكة بحماية البيئة والتنوع البيولوجي.
من خلال هذه المبادرات، يمكن تعزيز الاستدامة البيئية والعمل على الحفاظ على المواطن الحيوية وتنوع الأنواع. وإذا تحقّقت الأهداف المتعلقة باتفاقية التنوع البيولوجي بحلول عام 2030م، فسيكون الأحيائي لدى السعودية فرصة أكبر للحفاظ على الطبيعة والعالم الحيوي للأجيال القادمة.
هناك عمل سعودي دؤوب للمحافظة على الأراضي والمياه، والتنوع الأحيائي بشكل شامل، وليس فقط الـ30% المذكورة في خطة السعودية الخضراء.
وصيتي
بعد كل هذه السنوات التي قضاها في ربوع السعودية، يدعو السيد لولن كل السعوديين إلى أن يزوروا مناطق بلادهم ويتمتعوا بما تحويه من جمال وروعة، يقول: “ليس للصور واللقطات
الرقمية التي نمتلكها الآن أن تعوض زيارة هذه المناطق الجميلة. إنني أشجع الناس، خاصة الشباب والشابات والصغار، على زيارتها؛ إذ يمكنهم تعلُّم العلاقات المتبادلة بينهم وبين النباتات والحيوانات والجبال التي خلقها الله. هذه المناطق الجميلة هي كنوز لا يوجد مثلها في أي مكان آخر في العالم؛ لذا عليكم اكتشافها، وأتوقع منكم
أن تحبوها وتحافظوا عليها وتدافعوا عنها، فأنتم ستكونون رواد المستقبل في الحفاظ على التراث الطبيعي لهذا البلد الجميل”.
درس أيضًا البيئة الطبيعية في مكة المكرمة، ومن ضمنها: جبل ثور، وجبل حراء، وجبل سرير، وجبل الطارقي.
وفي المدينة المنورة، درس البيئة الطبيعية في جبل أحد والمناطق المحيطة به. ويمتد حرم المدينة المنورة على مساحة حوالي 1000 كيلومتر مربع، ويضم منطقة محمية تعرف باسم “حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
الاسم والمعنى والدلالة
يُعرّف ضيفنا عن نفسه بالقول: “أنا كبير المخططين في المناطق المحمية في إدارة تخطيط ومراقبة المناطق
المحمية بالمركز، وأنا أساسًا من أمريكا، من ولاية كولورادو، والوالدة من المجر والوالد أمريكي من أصول مختلطة ويلزية إسكتلندية ألمانية وقد ولدت عام 1952م”.
عروق بني معارض.. تحفة من الطبيعة
كان حديث المجلة مع السيد لولون قبل يوم واحد من إعلان منظمة اليونيسكو اختيار محمية عروق بني المعارض ضمن لائحة التراث الطبيعي العالمي. وكان له حديث عن “العروق”:
“من أجمل الأماكن التي رأيتها في حياتي هي عروق بني معارض. وهي منطقة تشكلت عند التقاء أكبر بحر رملي في العالم مع الطرف الجنوبي لجبل طويق، وهو جرف جيولوجي يمتد من وسط المملكة إلى جنوبها. كما أنني أحببت زيارة الكثبان الرملية في شرق الربع الخالي. وهي من أجمل الأماكن التي رأيتها في الصحراء.
كتب ومؤلفات
خلال إقامته الطويلة في المملكة العربية السعودية وعمله في المركز، ألّف السيد لولن العديد من الكتب والأبحاث المتعلقة بمجال عمله. والآن، أهم ما يعتز به هو صدور خطة منظومة المناطق المحمية، وهو الجهد الرئيس الذي قام بالعمل عليه على مدار السنوات.