[issue-single-data]

سبع..أم ضبع؟ الإسقاط البشري على عالم الحيوان

سبع..أم ضبع؟ الإسقاط البشري على عالم الحيوان

قد تكون هناك قصةٌ ما وراء التساؤل الشائع على ألسنة العامة: “سبع، أم ضبع”؟ بَيْد أن الأقربَ إلى اليقين هو أنه تساؤلٌ وجيهٌ جدًا في المغزى والدلالة، وفي القيمة أيضًا. السبُعُ سبعٌ، والضّبُعُ ضبعٌ، وشتّان بين رمزية الشجاعة والقوة والهيمنة، وبين رمزية الانتهازية!
الإنسان العربي خَبرَ الحيوانين المفترسين جيدًا. ومن حسٍّ فطريٍّ دقيقٍ مايز بين “سبُع” و”سبُع”. فسبعٌ صيّاد، وآخر قمّامٌ. وملكٌ وآخر فضوليٌّ. ومقدامٌ وآخر جبانٌ. كلا الكائنين “سبُعٌ” عند أسلافنا العرب، على أساس أن السّباع اسمٌ شامل لكل المفترسات تقريبًا. وقد ترسّخ هذا الفهم، عند أسلافنا بعد الإسلام؛ إذ جاء في الحديث الشريف المرويّ في صحيح مسلم: “كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ”.
حبيب محمود


سِباعُ بهائم..
سباع طيور!

مفهوم السباع قديم عند أسلافنا، وهو أوسع بكثيرٍ من ذلك، وتنضوي تحته كائنات كثيرة، والجامع بينها هو “أكل اللحوم”. فمثلما أن هناك سباعًا من البهائم، هناك سباعٌ أخرى من الطيور. البهائم “السَّبعية” هي الأسود والنمور والفهود والذئاب والثعالب، وكلّ حيوانٍ ذي نابٍ وظفرٍ. ولا فرق بين ما يغلب الصيد على سلوكه، وبين ما يغلب أكل الجيف. كلّها سباعٌ.
أمَّا سباع الطيورِ، فهي الجارحة، من النسور والصقور والعقبان، سواءً كانت صيادةً أم قمّامة. وكلها سباعٌ أيضًا.
وعلى هذا، فإن كلّ المفترسات سباعٍ، وكلّ القمّامات سِباعٌ، في التسمية العامة.
غير أن أسلافنا الذين عمّموا الاسم، خصّصوه كذلك. وعلى الرغم من أن الدلالة اللغوية لكلمة “سبُع” شغلت متّسعًا إضافيًا في الفقه، فإنّ كلمة “سبُع” – وحدها – تخصّ سيّد السباع على الإطلاق، وهو الأسد! لا يمكن لأحد أن يقول “سبع” ويسكتُ، إلا ويذهب السامع إلى هذا الكائن الذي لا يعلوه أحدٌ من البهائم في المنزلة والقيمة والرمزية.

سَبُعٌ..
1000 اسم للأسد

الباحث العراقي شاكر هادي شكر وضع مسردًا لـ62 اسمًا في اللغة العربية تخصّ الأسد. هذا الرصد مسرودٌ في الجزء الأول من كتابه المعروف بـ”الحيوان في الأدب العربي”. كثيرٌ من الأسماء غريب حتى في شكله الصوتي. هناك “الجغدب” و”الطيثار” و”العنبس” و”الهرماس” وغيرها. وبعد سرده القائمة الطويلة، علّق المؤلف بأن ما ورد من أسماء، إنما هو “بعض أسماء الأسد وصفاته”.
العالِم العربي كمال الدين الدميري (1341 – 1405م)، هو صاحب المصنّف الشهير “حياة الحيوان الكبرى”، وفيه قول لابن خالويه مفاده أن “للأسد خمسمائة اسم وصفة”. والأكثر غرابة هو ما ذكره الزبيدي في “تاج العروس” أن “للأسد ألف اسم”! ومن المرجّح أن هذه الأعداد ذات حس مبالغ فيه كثيرًا؛ إذ لم يسبق أن رُصدت هذه الأعداد الهائلة في تسميات الأسد، وإنما رُويت الإشارات إليها فحسب.
وعلى ذلك، فإن تعدّد الأسماء – حتى إلى مستوى العشرات فحسب – لا يُشير إلى ثراء لغوي فحسب، بل يضعُ أسئلة جادة للغاية حول التقدير العالي الذي حظي به هذا الكائن الخطر عند أسلافنا العرب. ويفسّر الدميري هذه الكثرة بأنها “تدلُّ على شرف المسمّى”. والدميري يزيد على ذلك رأيًا بقوله عن الأسد “لأنه أشرف الحيوان المتوحش؛ إذ منزلته منها منزلة الملك المُهاب”.
إن جزءًا وازنًا من التسميات ذو أصل اشتقاقي، بمعنى أن هناك معنى سابقًا تولّد منه معنى جديد في اسم الأسد. ومن ذلك اسم “البَيْهَس” على وزن “فَيْعَل”. وهذا الاسم مشتق من “البهس”؛ أي الجرأة. و”الجوّاس” من “الجوس”؛ أي الدوس. و”الحمزة” من “الحمز” أي القبض والضم. وللباحث الجزائري عمّار قلالة بحث لساني يحمل عنوان “نعوت الأسد عند العرب

من خلال أصول أسمائه”، رصد فيه وشرح الكثير من أسماء الأسد التي يعود أصلها إلى جذور سابقة في اللغة.
الاهتمام العالي بالأسد لدى أسلافنا العرب تطوّر كثيرًا عبر الأجيال، منذ عصور الأدب الأولى من الزمن الجاهلي. ويمكن فهم بعض ملامح هذا التطوّر من خلال الصورة النمطية التي ارتسمت في خيال الإنسان العربي المعجب بهذا الكائن القوي الفتّاك.
يمكن الاستشهاد بتشبيه بليغ استخدمه النابغة الذبياني الذي خاف النعمان بن المنذر ملك الحيرة؛ فقال معتذرًا:
أُنبئتُ أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأرٍ من الأسدِ
هذا الاستخدام التشبيهي حسّي، أشار فيه الشاعر إلى القوة الضاربة عند الملك، وقوة “وعيده” التي تعادل قوة زئير الأسد المخيف. وقد تطوّر هذا الاستخدام – بعد قرون – من الدلالة الحسّية إلى الدلالة المعنوية، ومثل ذلك عنوان كتاب “أسد الغابة في معرفة الصحابة” لابن الأثير، والمغزى في التسمية هو “قوة المعنى”؛ إذ يصف العنوان الكتاب بأنه ذو قوة، كما هي قوة أسد الغابة.
وما بين الزمنين المتباعدين تجارب عربية ثقافية كثيرة، مثّلها الشعر والنثر، كما مثّلتها يوميات حياة الشارع العامة، في استخدام اسم الأسد، كدلالة على القوة حينًا، والتفرد حينًا، والترفع حينًا ثالثًا. وكلّها ذات رمزية جوهرية في تقدير مكانة الأسد الضاري، بكلّ ما لديه من ملكات وصفات، تضعه في المرتبة الأولى من البهائم.. البهائم السَّبُعية عينًا.
المعرفة البشرية الموروثة عن الأسد “انطباعية” في غالبيتها، وقائمة على خبرة المعايشة والملاحظة.

الأسود (Lions) هي نوع واحد ينتمي إلى فصيلة السنوريات (Felidae)، والاسم العلمي له هو Panthera leo. ومع ذلك، توجد سلالات أو أنواع فرعية مختلفة للأسد موزعة في مناطق مختلفة من إفريقيا وآسيا. إليك قائمة بأهم الأنواع أو السلالات المعروفة للأسود في الطبيعة:

أنواع الأسود في الطبيعة

  • أسد غرب إفريقيا.
  • أسد الغير: الهند، وهو السلالة الوحيدة التي تعيش خارج إفريقيا.
  • الأسد الجنوب إفريقي
  • أسد كروغر: جنوب إفريقيا.
  • أسد الماساي: كينيا وتنزانيا.
  • أسد كالاهاري: بوتسوانا وناميبيا..

أنواع منقرضة أو أسطورية

  • الأسد البربري Barbary Lion.
  • الأسد الأوروبي European Lion.
  • الأسد الأمريكي American Lion – Panthera leo atrox.

أم ضبع؟
على العكس من الأسد في مكانة الشرف والرفعة، يقع الضبع الذي ينتمي أيضًا إلى سباع البهائم. لكنّ أسلافنا سبقوا باحثي الموائل والبيئات والكائنات في فهم سلوك الضبع المعروف بالوضاعة والحُمق والعيْث والفساد والغدر، فضلًا عن سلوكه الغذائيّ الأكثر شهرةً، كونه قمّامًا يفضل الجيف والفضلات، واستغلال جهود المفترسات الأخرى وسرقة فرائسها!
أسماؤه كثيرةٌ أيضًا في لغة العرب القدماء. بعض الأسماء شرسة مثل منظر الكائن، منها: جعار، جُراهمة، جُلعلع، جُمعليلة، خُتع!
وعلى اسمه بُنيت أمثال مضروبة: أحمق من الضبع، أعيَثُ من جعار. وله من القصص في أدبيات التراث، ما يُشيرُ إلى حسّ الانتهازية العالي لدى هذا الكائن المهمّ في منظومة البيئة، بل وحمل سمة الغدر التي بلغت ذروتها في تصوّر رسمه شاعرٌ عربي قديم بقوله:
ومن يصنعِ المعروفَ في غير أهله
يُلاقِ كما لاقى مُجيرُ أم عامر!

و “أم عامر” هذه، من أسماء أنثى الضبع، والبيت يعود إلى مثل عربي قديم مبني على قصة واقعية ذهب فيها رجلٌ ضحيةً لغدر أنثى ضبع، آواها وأحسن إليها، ثم التهمته.
واقع الأمر، هو أن الإسقاط البشري السلبي على الضبع ليس محصورًا في مجتمعنا العربي، ولا تراثنا العربي وحدَه. فهذا الحيوان وُصِمَ بـ”الموبقات” لدى شعوب كثيرة، بينها الشعوب الإفريقية التي لم تجد في الضبع أسدًا يتباهى بالقوة والزعامة، ولا ذئبًا يتفاخر بالصرامة، بل هو حيوان لديه من اللؤم والفظاعة ما يمكن أن يختزل الأخلاق القبيحة في مملكة الحيوان!
صاحب الفك الأقوى بين الثدييات، لا يخجل من كونه “مكّارًا انتهازيًا”. فبينما يتعب الأسد ويُرهق الفهد في مطاردة الفرائس، يظهر الضبع من خلف الأدغال ليستغلّ تعب الآخرين بأنانية قبيحة.

هو لا يصطاد بقدر ما يتربص، ولا يُجهد نفسه في مطاردة بقدر ما يُجيد استغلال لحظات الغفلة، ثم ينقضّ على الغنيمة كأنه يصرخ: “اللئيم أولى بالغنيمة”. وإذا اجتمعت الضباع، فإنها تشكِّل مجلسًا حيوانيًا لئيمًا وشريرًا، تتوزع على أفراده نظرات جانبية حذرة، تحت سطوة قانون غاب يُلخصه مثل عربي قديم: “اللئيم لا يُؤتمن حتى في خُبزه”. فهي تتقاتل فيما بينها بلا رحمة، ويأكل القوي فيها الضعيف لا لفرط الجوع، بل لأنه يستطيع فقط!
وما يزيد الضبع لؤمًا، هو أنه يظهر وكأنه يضحك ضحكًا خبيثًا خارجًا من عمق نفسٍ وضيعة.
حتى في الطبيعة الاجتماعية، تُعرف أنثى الضبع بأنها الأقوى، والأعلى مكانة، وهو ما يجعل الذكر في حالة تملّق مستمر. وهذا ما يجعل اللؤم لديه نمطًا اجتماعيًا متنقّلًا، لا يسلم منه حتى أفراد القبيلة الواحدة.
ولكن، لنقرأ الطبيعة بعيدًا عن إسقاطنا البشريّ الأخلاقي، فالضبع ليس شريرًا لأنه يكره الخير، بل لأنه هكذا جُبِل. إنه كائن خُلق ليكون طرفًا ثالثًا في كل مأساة تعيشها الغابة. لا يأبه للبداية، ولا يهتم للنهاية، المهم أن يكون هناك شيء متروك، وهو أول من يلتقطه.


بين الأسد والضبع
وفي مملكة الحيوان، حيث البقاء للأقوى، قلّما يُنظر إلى السلوك من زاوية “الأخلاق”. لكن البشر، منذ القدم، اعتادوا إسقاط مفاهيمهم الأخلاقية على سلوك الحيوانات، في محاولة لفهم الطبيعة أو لتبرير مواقف إنسانية. من بين هذه الحيوانات، يبرز الأسد والضبع ثنائيًا متضادًا في التصوّر الشعبي، ويستحقان تأملًا أخلاقيًا أعمق.
فالأسد، الملقب بملك الغابة، يُصوّر في الأدب والأساطير رمزًا للشجاعة

والنبل والسيادة. فهو لا يقتل إلا عند الحاجة، وغالبًا ما يُصوّر كحيوان مهيب لا يُهاجم إلا دفاعًا عن عرينه أو بحثًا عن طعام. ومع ذلك، عند التأمل في سلوكه الواقعي، نجد أن الأسود الذكور تقتل الأشبال من ذكور أخرى عند استلام السيطرة على مجموعة، لتأمين النسل من ذريتها فقط. من منظور بشري، هذا الفعل قد يُوصف بالقسوة أو الأنانية، لكن في عالم الحيوان هو استراتيجية تطورية.
وفي المقابل، تُوصم الضباع بأنها جبانة وغادرة، وتعيش على فتات غيرها. تُتهم بالسرقة من الأسود والحيوانات المفترسة الأخرى، وتُربط في الثقافة الشعبية بالخداع والتلون. لكن في الحقيقة، الضباع كائنات ذكية ذات نظام اجتماعي معقّد، تعتمد على التعاون والصيد الجماعي، وغالبًا ما تفترس بنفسها بدل الاعتماد على بقايا الآخرين. فسلوكها التنافسي يُفسَّر أخلاقيًا كبحث مشروع عن البقاء، وإن بدا “مخادعًا” في أعيننا.
إسقاط أخلاقي بشري
عندما نصف سلوك الأسد بـ”النبل” وسلوك الضبع بـ”الدناءة”، فإننا في الواقع نُسقِط معاييرنا الأخلاقية البشرية على مخلوقات لا تعرف الخير والشر كما نعرفهما. فالأخلاق تنبع من الوعي والمسؤولية، بينما الحيوانات تسلك بدافع البقاء والتكاثر، لا بدافع الفضيلة أو الرذيلة. ومع ذلك، يمكن أن نقرأ في سلوكهما رموزًا تعكس صراعاتنا نحن: القوة مقابل الذكاء، الهيبة مقابل المكر، القيادة مقابل البقاء في الظل.
في النهاية، الأسد والضبع ليسا مخلوقين يعيشان في الغابة، بل هما مرآة نرى أنفسنا فيها، أنفسنا في الطبيعة.

أنواع الضباع

  • الضبع المرقط Crocuta Crocuta.
  • الضبع المخطط Hyaena hyaena.
  • الضبع البني Parahyaena brunnea.

Facebook
X
LinkedIn
WhatsApp

مقالات ذات صلة :

ابحث عن مقـــــال داخـــل الأعداد