حتى في زمن جوع الناس ووفرة الحيوانات؛ كانت لدى المجتمع المحلي تشريعاته وآلياته لتحقيق ما نعرفه اليوم بـ”الاستدامة”. وعلى سجيتهم؛ مارسوا اقتصادًا بيئيًا ناجحًا جدًا، من دون أن تكون لديهم ملَكة التدوين والكتابة والإعلام الواسع.
احترموا البيئة، وأجلّوا الطبيعة، ووضعوا القواعد والأعراف، وحدّدوا المواقع والأوقات. والتزموا.
التزموا؛ على الرغم من صعوبة الصيد في ذاته، ومحدودية أدواته، وقلة سلاحه. وفوق ذلك كله؛ لم تكن حاجتهم إليه رفاهية أو هواية، كما هو في واقعنا اليوم.
امتناع طوعي
في سرد ذكرياته المنسية؛ يشرح الراوي محمد القحص، كيف كانت القبائل، في المملكة، تحتكم إلى قوانين اجتماعية غير مكتوبة في حماية الطبيعة من التصرفات البشرية الجائرة.
ويشرح القحص علة امتناع الناس طوعًا عن الصيد في موسم التكاثر تحديدًا. القصة ـ بحسب ما يروي القحص نقلًا عن أبيه ـ تعود إلى ندمٍ عميق أصاب صيادًا من إحدى قبائل الجنوب السعودي. فقد خرج ذلك الصيّاد، ذات يوم، في رحلة قنص اعتيادية، حاملًا بندقيته.
يقول القحص: “لمح الصياد أنثى وعلٍ عن كثب.. صوّب فوهة البندقية نحوها.. أطلق الرصاصة”.
إنه مشهد يعيشه كلّ صيّاد مرارًا وتكرارًا، ولا شيءَ يستثير الغرابة، فضلًا عن التأثر. إلا أنه حين وقف على صيده؛ صدمه مشهد صغار الوعل، وهي ترضع من أمّها، وهي جثة هامدة..!
لم تكن صدمةً فحسب، بل ندمًا مُرًَّا، قرّر بأثره التخلي عن الصيد.. ويُروى عن ذلك الصياد أن ضميره تأذّى كثيرًا. ولم يكتفِ بقراره الامتناع عن الصيد، بل ساقه ألمه إلى محاولة تنبيه الناس إلى العواقب المؤلمة.. قصد شيخ القبيلة وروى له ما حدث.. بكى في مجلسه. وبعد الأخذ والرد؛ أقرّ شيخ القبيلة عُرفًا يضارع القانون في مضمونه، العُرف “الحجر” الذي يعني التوقف عن الصيد توقفًا تامًا في “الحمى” خلال فترة ولادة الحيوانات.
كانت الرحمة دافعًا لتأسيس هذا العُرف الاجتماعي، غير أن مفاعيل الرحمة اتسعت لتكريس حسّ “الحماية” بين الناس.
وبحسب الراوي القحص؛ فإن كلمة “الحجر” تعني لديهم ما يُعرف في التشريعات الراهنة بـ “الحظر”، ويشمل ذلك حظر الصيد وحظر الرعي، في مواعيد سنوية، وحالات محددة.
محميات قديمة
ويشرح القحص أكثر، ويقول: كانت القبائل سابقًا تضع قواعد لتحمي “الحمى”، وهي كملة تشبه كلمة “محمية” في عالم اليوم. هناك ـ مثلًا ـ موقع شائع في الجنوب السعودي يُعرف بـ “المنقع”، وموقع آخر اسمه “العشا”. وحين تهطل الأمطار يتم إعلان “الحجر” فيهما، لمنع دخول الرعاة مدة شهر أو شهرين، حتى ينبت العشب ويكبر.
كان المنع يُعلن في الأسواق بإطلاق رصاصتين من بندقية إيذانًا ببدء الحجر. وبعد انتهاء مدة “الحجر” تبدأ فترة “السماح” بإعلان ذلك، أيضًا، ويُقال عن ذلك “أبَحْنا”.. ولكل القبائل محاجر يحترمونها.
ماذا عن المخالفين..؟
مثلما أن هناك تشريعات اجتماعية؛ هناك أيضًا عقوبات اجتماعية.. يقول الراوي القحص: “المخالفون لأعراف “الحجر”؛ يُعاقبهم المجتمع نفسه، بل ويُقاطعهم؛ فلا يدخلون الأسواق، ولا يُباع منهم ولا يُشترى، حتى يتملكهم شعور المنبوذين، ويكون في عقابهم عبرة لغيرهم”.
العقاب لا يتوقف عند هذا. بل هناك ما يُشبه الغرامة في الوقت الراهن، فمن “دخل الحمى أو المحجر دون علمه بـ “الحجر”؛ يُؤخذ منه خروفان إذا كان معه غنم، ويؤخذ منه حاشي إذا كان معه إبل، ويُطرد من المنطقة”.
يضيف شارحًا: “أما الذي يعلم بـ “الحجر” ويدخل “الحمى” متعمدًا فهذا تتم مصادرة “حلاله” ولا يتم “فكه” إلا بجزاء مُغلَّظ لأنه استباح الحمى”.
يقول أيضًا: “تطبق عقوبات أخرى أيضًا، منها مصادرة العشر أو أكثر من مجموع الماشية”.
القحص يُشير إلى شدة احترام القواعد والأعراف من أجل ما نعرفه اليوم بـ”الاستدامة”.
كان لدى الناس ما يُشبه الإيمان الفطري بالحياة الفطرية.. كانت لديهم عبارة شعبية مُتعارفة وراسخة وتُكرّر بنصها الدقيق: “وين رايح..؟ لا تقضي عليها”. والمقصود لا تقضِ على هذه الحيوانات لأنها تجمل الحياة، حيث تجد الأرانب، والوبر، والطيور بأنواعها”.
الوصية..!
الذاكرة التي يحملها الراوي القحص واسعة، وخلاصتها العفوية تُشير إلى أن “الأرض كساؤها الأشجار والحيوانات الفطرية، وعلينا الحفاظ عليها. نحن ـ ولله الحمد ـ لسنا في حاجة إلى الصيد من أجل الطعام، وعلينا ترك الصيد للتباهي كما هو حاصل هذه الأيام”.
وبلغة فطرية يتساءل: “لماذا لا نترك الطيور تعيش وتتنقل هنا وهناك..؟ ومثلها بقية الحيوانات كالوعول والغزلان وغيرها. .؟”.
يضيف متذكرًا: “الحيوانات المفترسة كانت موجودة في السابق، النمر العربي والضبع. الآن قلّت، والنمر “ما عاد شفناه” من 30 إلى 40 سنة”. وتحديدًا منذ أن “جاءت السيارات والسلاح الناري. الوعول قلّت أيضًا، وقد كانت الجبال مليئة بها.. الآن.. “ما عاد تلقاها” إلا في رؤوس الجبال الشاهقة.. حتى الظباء؛ كانت في الربع الخالي كثيرة في قطعان.. الآن “ماعاد تشوفها”.
لا تدعسوا العشب
ويوصي القحص الصيادين اليوم بأن “يخافوا الله ويتقوه في الحياة الفطرية وما تضمه من كنوز وثروات مهمة لا يجوز التفريط فيها”.
ويذهب القحص إلى أبعد من ذلك “حاليًا وعند نزول المطر تقوم السيارات بدعس العشب قبل نموه”، ويطالب “لا بد من تطبيق مبدأ “الحجر” حفاظا على البيئة”.