إنها 900 يوم، ربما أكثر قليلًا، وربما أقلّ قليلًا. غير أنها كانت الرحلة الشاقة التي حملت فيها قافلة سعودية طويلة، حقائبَ ثقيلة، وعبَرت بها مفازات الرمال العالية الجافة، بحثًا عن الذات الفطرية الحيّة في واحدٍ من أطراف الربع الخالي القاحل!
هذا هو ملخّص الرحلة التي راهنتْ على أن «نكون» أو «لا نكون»، ليس في السجلّ العالمي فحسب، بل في سجلّ تاريخنا البيئي. وهكذا وصلت القافلة إلى اليوم العشرين من شهر سبتمبر الماضي، وفي حقائبها 930 شريكًا في الحياة.
وهكذا جاء إعلان منظمة اليونسكو انضمام محمية عروق بني معارض إلى التراث العالمي الطبيعي.
تاريخ المحمية ناهز ثلاثة عقود، لكنّ العزم على أن تكون عروق بني معارض نموذجيةً بين المحميات؛ بدأ في 2021، حين وضع المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية في حسبان خططه العمل الجاد على ذلك، بل والسعي إلى تسجيلها في قائمة التراث العالمي.
هناك خطوات أولى على الأرض، لإزالة المؤثرات في المنظومة البيئية مهما كان حجمها ودرجة تأثيرها.
من بينها إعادة تدوير المياه في مراكز الجوالين، وإجراء الدراسات المحكمة وتنفيذها في مجال استخدام الطاقة المتجددة الوافرة، كالطاقة الشمسية، والاستعانة بطائرات دون طيار للتخفيف من عوادم السيارات المستخدمة في جولات المسح، وتسخير الكاميرات
المخفية للمساعدة في دراسة التنوع في النظم البيئية والتنوع الأحيائي، داخل المنطقة المحمية.
لم نكن وحدنا، كنا «قافلة» بالمعنى الحرفي، قافلة من قيادات المركز، وعقولًا أكاديمية من جامعات، وخبراء محليين وعالميين، ومؤثرين في وزارة الثقافة.
عبرت القافلة المفازات، وتجوّلت بين السهول والأودية، وتفحّصت الصخور والرمال، وتقفّت آثار الخطوات، وتعاملت حتى مع ما تبقى من يباس المستنقعات، وجذور الأعشاب، والغصون العطشى والريّانة.. حاولت فهم كلّ ذات جناح، ومخلب، وظلف، وناب على الأرض وفي الهواء ووسط الماء الشحيح!
سارت القافلة نحو هدفها.. هدفها أن تستحيل ثروة هذه الأرض الشاسعة أيقونةً بيئية عالمية، سوف نهديها إلى كوكبنا الحيّ، وستكون شهادةً على أن صحراءنا أثرى حياةً مما يُظَنُّ. إنها فكرة المحال، بيد أنها فكرة الواقع أصلًا. وقد أخذ ذلك يتأكد مع كل رحلة مسح، ومهمة ميدان، وفحص مختبر!
المساحة لا تشغل أكثر من 2% من صحارى الربع الخالي البالغة 600 ألف كيلو متر مربع. غير أنها ليست صغيرة، إنها بمساحة دولة صغيرة فعلًا، إنها 12765 كيلو مترًا مربعًا. بيئات متنوعة بين الرملية والجبلية. إنها الأغنى في التنوع الأحيائي.
هناك الغطاء النباتي بوجود 121 نوعًا، من مجموع 930 نوعًا فطريًا حيًا. قد يكون المها العربي هو الأشهر في هذه المفازات النائية، وهو رمز المكان. غير أن الكائن لم يكن لينتعش منذ 1995م، بإعادة توطينه، لولا وجود ثراء وسط هذا الجفاف، وقد ساعد هذا الثراء على تخفيض مستوى تهديد «البقرة الجميلة» إلى 4 درجات بالمعيار العالمي.
النجاح مع المها العربي، ومع ظبي الريم، ومع ظبي الإدمي، ومع الحضارة.. كل ذلك نتاج نجاح في الفطرة التي أودعها الله في المكان كله. ونجاح وطني، أيضًا، سعى المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية وشركاؤه إلى تفعيله على رمل الواقع وسبخاته وقيعانه.
شيئًا فشيئًا راحت القافلة تواصل سيرها وجولاتها في الطرف الغربي من صحراء الربع الخالي، حيث تصل جبال طويق الآتية من قلب المملكة؛ لتشكل «طبوغرافيا» جديرة باحتضان كل هذه البيئات وكلّ هذه الكائنات التي يكاد لا يُرى بعضها خارج حدود الجزيرة العربية.
إن المميزات النوعية لهذه المنطقة بسمائها الساحرة، دفعت الجهود المتضافرة لبناء منجز ضخم وقصة نجاح سعودية جديدة سطرت أحرفها بكل جدارة واستحقاق في سجلات قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).
إن تسجيل هذه المحمية في قوائم اليونسكو، يعني أن ممارسات الحفظ المطبقة فيها – من قبل المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية – تتفق مع المعايير الدولية، فضلًا عن أن التسجيل في هذه القائمة يقتضي أن يكون الموقع متميزًا ومتفردًا على مستوى الكرة الأرضية، ولذلك تم التسجيل والإعلان بالإجماع من قبل لجنة التراث العالمي.
إنه اعتراف دولي بسلامة الإجراءات، كالحفظ والممارسات البيئية، وإعادة التوطين، وبالتالي المحافظة على التنوع الأحيائي والطبيعي. ومن زاوية أخرى، فإن التسجيل أعطى للمحمية صدى دوليًا كبيرًا، وهو ما يمكن أن يرفع من مستوى جذب السياح والمهتمين بالسياحة البيئية عالميًا، فضلًا عن أن التسجيل يضيف تعريفًا بالتنوع الفطري والبيئي الموجود في المملكة العربية السعودية.