الدهشة دفعته إلى توثيق التراث والحياة الفطرية
منذ أن فتح عينيه على الدنيا، فتحت له الطبيعة في تهامة غامد الزناد بابًا من الدهشة، وكان إلى جانبه والدان عطوفان، لم يبخلا عليه بجواب لكل التساؤلات التي كانت تباغته حيًنا، وحينًا يدفعه الفضول للتجريب والاكتشاف بنفسه.
طبيعة عامرة عاشها بكل الحيوات، نباتات مختلفة ومتعددة، وطيور متفاوتة في الأشكال والأحجام، وحشرات في عالم متسع لا حصر له، بين الزاحفة والدابة والطائرة، وثدييات تتجاور فيما بينها رغم اختلاف أنواعها وأشكالها وأحجامها وألوانها وطبيعة غذائها.
أسئلة تتوارد وتتوالد في كل يوم، وطبيعة غناء تقدم المزيد والمزيد من الكائنات في كل فصل من فصول السنة. هكذا عاش العم مرضي بن خماش بن دمام الغامدي طفولته اليافعة وهو ينهل من جمال الطبيعة بالسمع والبصر وبقية الحواس كلها.
يقول العم مرضي: في فترة طفولتي وشبابي، عشت في تُهامة غامد جنوب المملكة العربية السعودية مع والديَّ – رحمهما الله – وقد نشأ معي حب الطبيعة بكل تفاصيلها منذ نعومة أظفاري، مثلي مثل أي شاب في تهامة، فنحن أبناء بيئتنا.
تكوَّن لديَّ اهتمام بمعرفة كل ما أراه من أشجار وطيور وحيوانات وحشرات وزواحف، وكنت أسأل عنها والديَّ – رحمهما الله – حتى تمكَّنت بعد توفيق الله، من حفظ وتوثيق بعض ما تعلمته منهما في كتابي “دليل بن خماش للتراث التُهامي”.
حب الأرض والطبيعة
في طفولته وشبابه مارس بن خماش كل عمليات الزراعة والحصاد، وذلك أثناء مشاركته ومساعدته لوالده في حرث وزراعة الأرض وحصادها، حيث كانت الزراعة هي العمود الفقري لمنطقة الباحة، ومحور حياة الناس في جنوب المملكة، وهي أيضًا المهنة السائدة آنذاك. ولهذا، فقد تعلَّم منذ طفولته كيف يقوم بكل عمليات الزراعة والحصاد، وهذا أضاف له الكثير. فالحبوب التي يزرعها الناس في تهامة متنوعة، ولها مسميات مختلفة، ومواسم مختلفة، تبعًا لكل فصل من فصول السنة.
لم يكتفِ بن خماش بالعمل في الزراعة، فقد مارس الرعي، وكان يسرح بالحلال – كما يقول – مترنمًا بين الجبال والأودية والسهول، فقد رعى الغنم والإبل. ولمَّا بلغ العشرين عامًا كان قد تعلَّم الكثير من الخبرات والمعارف، وقد صقلته التجارب والمواقف التي عاشها في طبيعة تهامة الغناء. كما تعلَّم من طبيعة الحياة في تهامة الكثير.
يقول بن خماش: الحياة التي عشتها في تهامة جعلتني شغوفًا بالطبيعة، ومحبًا لكل مكوناتها الفطرية، التي أجد فيها الأنس والمتعة. وقد توسَّعت اهتماماتي ومتابعتي للطبيعة والتراث في تهامة. وقمت بعد ذلك، بالاطلاع على المصادر العلمية، وهو ما دفعني لتوثيق تلك الطبيعة وذلك التراث في كتابي، بعد أن وجدت طغيان العمران والتمدن على حساب الطبيعة التي أخذت ملامح الحياة القديمة فيها بالاندثار، فضاع جمال الطبيعة وهدوءها بعد أن كانت تزخر بمختلف الأنواع والأحياء الطبيعية والفطرية، نظرًا لتنوع التضاريس وتوسطها بين الساحل وسلسلة جبال السروات. ولا شك أن التغير سنة طبيعية في الأرض، وتُهامة التي كنت فيها في طفولتي ليست هي تُهامة اليوم.
الكتاب المُهدى لتهامة
أصدر بن خماش كتابه “دليل بن خماش للتراث التُهامي” عام 2012، ثم قدَّم طبعة ثانية منه في عام 2015، وهو كتاب يحتوي على ستة أقسام، وهي: “العادات والتقاليد، والتراث، والزراعة والحرث والنحل، وأدوات الصيد والقنص، والطلاء، والطبيعة والحياة الفطرية والأثرية، والأكلات والأسواق الشعبية”.
يقع في 372 صفحة من القطع الوزيري، متضمنًا الصور والشروح، التي تظهر حجم الجهد الذي صرفه بن خماش في إعداد وإصدار هذا الكتاب الذي وثَّق الطبيعة بالصور ليؤكد على صدق التوثيق.
استحوذ قسم الطبيعة والحياة الفطرية والأثرية في الكتاب على نسبة 33 %، أي ما يعادل ثلث الكتاب. فضلًا عن وجود متعلقات أخرى بالحياة الفطرية متفرقة في المتن، فقد اشتمل قسم الطبيعة والحياة الفطرية والأثرية على مقدمة. ثم تناول ابن خماش الحيوانات والنباتات والطيور باسمها المحلي في تهامة مشفوعة بالصور، حيث ذكر من الحيوانات الثديية “28” نوعًا، منها “4” أنواع من الأبل وهي: “الجرش أو الجارشيات أو العربيات، والساحليات، والعوادي، والواركي أو الواركيات”، و”3” أنواع من السباع شبه منقرضة وهي: “وحش الجبال، والنمر العربي، وشمعة”.
ثم ذكر من الطيور «42» نوعًا، جزء منها ذكر له أسماء عامية، من أبرزها طائر «الرخمة» الذي صنف بأنه مهدد
بالانقراض عالميًا، وذكر من الطيور الوافدة «الديك الرومي»، ومن النادرة ذكر «الوطفة»، ومن المهاجرة «البلشون الأبيض».
وأمَّا الزواحف، فذكر منها “8” أنواع من الثعابين وهي: “الثروان، والثعبان الأسود، وحوت الجمال، وحية أم قرون، والحية الربدا، وحية أم جنيب، والقدار أو الكوبرا، ومزرق”. ومن الحشرات الكبيرة الزاحفة ذكر نوعين وهما: “الحلبوب، ومعنقل أو أبو أربعة وأربعين”.
ومن فئة السحالي ذكر “7” أنواع وهي: “عظاظ، وبالوحر، وبرمه أو الغار، وبصوي، وحرباية، وبريعص أو بصاقة”، ومن العقارب ذكر “4” أنواع وهي: “العقرب البني، والعقرب الشهلاء، والعقرب الصفراء، والعقرب العربية الصفراء”.
أمَّا الأشجار والنباتات، فقد ذكر منها أكثر من “200” نوع، من بينها “10” أنواع تُستخدم في الطبابة وهي: “اللحمية، والثفاء، وثوعة، ودبيلي، وروحة، وعبعب، وعجاية، وعصرة، وغاقة، ونقمة”، و”5” أنواع سامة وهي: “الألبة، والتنباك، والجعبة، والحثرانة، والسيسبان”، و”5” أنواع يُستخرج منها القطران وهي: “الأثل، والقسية، والعتمة، والمضة، والغراف أو الغرافة”، و”7” أنواع تُستخدم لدباغة الجلود وهي: “أم السمن، وحليب، والشث أو الشتة، والضهيان أو الضهيانة، والضميران، والعثرب، وهدالة”، و”5” أنواع من النباتات والأشجار الوافدة وهي: “البوبي، واللوز، والصياحة، والصراية، والتالة”، و”3” أنواع من الأشجار والنباتات النادرة وهي: “ضبرة، وفوق، والعرمة”، والعديد من الأشجار والنباتات العطرية، والمعمرة، والموسمية.
200
نوع من الأشجار والنباتات
28
نوعًا من الحيوانات الثديية
42
نوعًا من الطيور
8
أنواع من الثعابين
7
أنواع من فئة السحالي
4
أنواع من العقارب
2
من الحشرات الزاحفة
مزيد من الحماية
فيما يخص أصناف الحيوانات والنباتات والطيور التي أصبحت منقرضة، قال ابن خماش: لا يمكن الجزم بالانقراض، لكن هناك تضاؤل في كثير من الأصناف. وأرى أن أرض تهامة تحتاج إلى عناية خاصة وتسليط الضوء على مكامن طبيعتها المتنوعة وحمايتها من الأيدي العابثة كالصيد والاحتطاب الجائرين، ذلك أن المنطقة بها أنواع كثيرة من النباتات والطيور والحيوانات والحشرات النادرة.
وتابع العم مرضي قائلًا: الزراعة والرعي من الجوانب الهامة
في الحياة الاجتماعية، وتقوم عليها الجوانب الأخرى. كان الناس قديمًا يواجهون الصعوبات الكبيرة بمسؤولية أكبر في سبيل تأمين الغذاء، فقد كان لديهم اهتمام وحماية لحدود الرعي وحدود الصيد وكذلك حدود الاحتطاب. كانوا يتعاملون بمسؤولية ويحافظون على مختلف الأنواع. ففي الزراعة كانوا يقومون بتقسيم الحبوب على المواسم خلال العام بأكمله حتى يكون هناك استدامة لمصادر الغذاء. وكان الغطاء النباتي واسعًا. ولهذا، لا بدَّ من الاهتمام بتُهامة الأرض والطبيعة لتبقى مصدرًا متنوعًا من الحيوانات والنباتات والمياه، فقد أرهقتها كثرة الآبار المحفورة والصيد والاحتطاب الجائرين، وكل ذلك ساهم في تدمير الطبيعة والحياة الفطرية. ونأمل أن تسهم الأنظمة والقوانين، إلى جانب جهاز الأمن البيئي في عودة الأرض لطبيعتها ورونقها وتألقها، بعد أن فُقدت الجداول المائية التي كانت تسمَّى “الغيل”، كما فُقد الغطاء النباتي والتنوع الحيواني، وفُقدت أنواع كثيرة من الطيور بسبب الزحف العمراني.
فخور بمنجز لا يشيخ
يعتبر ابن خماش أن الجهد الذي قام به في جمع مادة الكتاب جهد متواضع، نظرًا للجهود التي قام بها غيرها في توثيق الحياة الطبيعية في المملكة بشكل عام، وأنه يطمح أن يلبي كتابه الغرض الذي أعده من أجله وهو توثيق التراث والطبيعة التهامية بشكل أساسي، وأنه يضع الكتاب بين يدي الأجيال القادمة، على اعتبار أن ذاكرة الكتب لا تشيخ ولا تتلف مع مرور الزمن، مؤكدًا أن ما قام به من بحث وجمع وإعداد لمادة الكتاب انطلق في الأساس من شغف شخصي وحب كان محركًا ودافعًا لاستقراء وتتبع المصادر الشحيحة التي تحدثت عن تُهامة.
يقول ابن خماش: أضاف لي العمل على جمع وتوثيق مادة الكتاب المعرفة الوافرة والاجتهاد في التنقيب عن مصادر المعلومات والاستفاضة في الامتدادات التاريخية لبعض القطع والآثار والحياة الفطرية، سواء في النبات أو
الحيوان. وأنا في الحقيقة فخور بما أنجزت وأطمح لتقديم المزيد في هذا الجانب الذي أراه مصدر إلهام وثراء معرفي بالنسبة إليَّ. وأشار إلى أن الارتباطات والمسؤوليات العائلية والاجتماعية أخذت من وقته الكثير، وكانت بمثابة التحديات التي واجهها، وعمل بجد على التوفيق بين مسؤولياته والتزاماته وبين شغفه بالحياة الفطرية والتراث التهامي. وكانت هناك تحديات وصعوبات أخرى ارتبطت بجغرافية المكان نظرًا لوعورة الأرض وصعوبة الوصول لكثير من الأماكن التي تزخر بالحياة الفطرية. ويُضيف: فضلًا عن صعوبات وتحديات علمية مثل شح المصادر حول تُهامة ووفاة الكثيرين من المهتمين بهذه الأرض وممن سكنوها، كان هناك تحديات وصعوبات مالية، حيث إن الجهود كانت شخصية وتم طباعة الكتاب على أيدي أهل الخير والداعمين.
الحيوانات الوافدة وتأثيراتها المستقبلية
وعن اجابته عن سؤال حول كيفية معرفته بنزوح حيوانات برية كثيرة وفدت للمملكة بعد حرب اليمن، قال ابن خماش: من خلال متابعتي للأخبار، وما نقله هواة الصيد من قصص، وما وجدته من أسئلة عن أنواع الحيوانات، وما عرضه على البعض من صور لتلك الحيوانات، تعرَّفت على كثير من الحيوانات التي نزحت لتهامة من اليمن، بعضها أليف، وبعضها متوحش، ولا يمكنني الآن تحديد الأسماء العلمية لها، نظرًا لكوني غير متخصص، لكن غالبها من الحيوانات المفترسة والزواحف والطيور، التي شاهدها الناس وشاهدتها من خلال توثيق هواة الهايكنق.
وحول معرفته في التفريق بين ما هو أصيل وبين ما هو وافد على الطبيعة في تهامة، قال ابن خماش: هذا الأمر محل بحث ودراسة من قبل المختصين والمهتمين. وبحسب حديثي مع كثير من الباحثين، فإن مثل هذه الفروق لا تظهر في وقت قصير، بل تحتاج إلى وقت طويل نسبيًا؛ ليتم التعرُّف على الفوارق في البيئة المحلية في تهامة، وبالأخص في ظل وجود موارد مائية مثل السدود والأودية التي تحتفظ بمياه الأمطار لفترات طويلة من الزمن، وتُعتبر من المصادر الهامة التي تستقطب مختلف الحيوانات والطيور الوافدة. وفي المجمل، أود التأكيد أن التوازن البيئي أمر مهم، فإذا كانت هذه الحيوانات الوافدة جزءًا من البيئة المحلية، فدوري هو دور الراصد والمهتم والموثّق لكل مكون من مكونات الطبيعة في تهامة. على أن دراسة التأثيرات على الطبيعة لهذه الحيوانات الوافدة، يحتاج إلى رصد وملاحظة مطولة من قبل الباحثين والمتخصصين لمعرفة القيمة المضافة، سواء بشكل سلبي أو بشكل إيجابي على الطبيعة في أرض تُهامة.
رغبة في توثيق تلفزيوني
شارك بن خماش في معرض الكتاب ووقع نسختين من كتابه: الأولى صدرت عام 2012، والثانية صدرت عام 2015. كما شارك في كثير من اللقاءات التلفزيونية والصحفية، تحدث فيها عن التراث التهامي. وخلال تلك الفترة، تكوَّنت لديه فكرة تحويل الكتاب إلى فيلم وثائقي باللغتين العربية والأجنبية، ولكنه وجد أن هذا الأمر مكلف ماديًا، وتمنى أن تتبنى وزارة الثقافة أو مركز حماية الحياة الفطرية هذه الفكرة، ذلك أن تهامة خلال فصلي الربيع والشتاء تتحوَّل إلى جنة من الجنان الغناء.