4 آلاف سنة مدفونة في الدحول
فهدة، كشماء، ثواب، حياة.. إن هي إلا أسماء 4 فهود وُلدت في إعلان بيئيٍّ جديدٍ. نعم، تحوّل إعلان الولادة الرباعية إلى حالة إلكترونية ذات زخم بعشرات الملايين. والقصّة التي سُردت في طريق مكة، في العاصمة الرياض، وعلى منصة المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، عرضت تفاصيل جديرة بالإعجاب العالمي، على صعيد نجاح استعادة كائن اختفى من الطبيعة السعودية منذ 4 عقود!..
غير أن القصة – بل القصص – الأعمق، تذهب إلى أبعد من ذلك بآلاف السنين، وتتوزّع تفاصيلها في سلسلة من الاكتشافات التي عثرت على مومياوات لفهود، على مساحات مترامية من الشمال السعودي. وقدَّمت الأدلة الميدانية في الكهوف والدحول، وفحوصات الحمض النووي معلومات دقيقة عن أن للمواليد الأربعة وجودًا “عرقيًا” يعود إلى أسلاف ضاربة في نسيان الحياة البيولوجية في الجزيرة العربية.
وإليكم القصة..
بل إليكم القصص..
متابعة: عصام الحاج
الصور: كمعان
فيما كان خبراء المركز يعرضون الرسومات والصور والجداول والبيانات في قاعة الدور الأرضي من المركز، صباح الثلاثاء 23 يوليو الماضي، كانت وسائل إعلام محلية وعالمية ترصد ما يُشرح وسط نخبة من المختصين والمهتمين.
لم يكن الإعلان الأول عن ولادات لحيوانات فطرية. لقد اعتاد المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية أن يغرّد بالمستجدات التي تعنيه. وأخبار ولادات الظباء وغيرها تُنشر تباعًا. إلا ولادة الفهود الأربعة حصلت على صفة نوعية استثنائية جدًا. هذا الحيوان الكاسر اختفى من الطبيعة السعودية منذ 4 عقود. ونجاح المركز في تأسيس خطوة عملية في طريق استعادته، يُشير – فيما يُشير – إلى أن رحلة التعافي الفطري في حاجة إلى مزيد من العمل المشترك بين المركز وبين جهات عديدة، وبين الناس أيضًا.
لذلك أعلن المركز عن هذا الإنجاز في احتفال خاص، وأزاح النقاب عن تفاصيل الاستراتيجية التي تتضمن مراحل عديدة، تشمل تأسيس مرافق الإكثار والتوحيش، وتحديد المناطق المحمية المناسبة، والتحضير لعملية إعادة التوطين.
تليها الشراكة المجتمعية في برنامج الحماية، ثم إعادة التوطين، وتأسيس مجموعة متكاثرة ذاتيًا ومستدامة. وكل ذلك مما يعزِّز الآمال في إنشاء مجموعة تتيح النمو المستدام للفهد في المملكة.
إنجاز مهم
وحين تسلّم الرئيس التنفيذي للمركز الدكتور محمد علي قربان، زمام الحديث، وضع توصيفًا صارمًا للاستراتيجية الوطنية للحفاظ على الفهد، ونبّه إلى أنها “أُعدت بمنهجية متكاملة وفقًا لأعلى
المعايير الدولية”. وفيما يخص ولادة الأشبال الأربعة، شدّد على أنها تمثل “إنجازًا مهمًا لجهود المركز” وذات أثر في “ضمان مستقبل مستدام للفهود في موائلها الطبيعية في المملكة، كما يجسِّد نجاح مساعي المركز لإعادة تأهيل النظام البيئي وتعزيز توازنه”.
كما أوضح الدكتور قربان أن “تسجيل الولادات الأربع يعكس أهمية خاصة، لكون الفهد الصياد هو إحدى الفصائل المنقرضة في الجزيرة العربية منذ أكثر من 40 عامًا”.
وربطًا بموضوع آخر ذي صلة حيوية، أشار الدكتور قربان إلى أن “الاكتشافات الأخيرة لمومياوات الفهود في شمال المملكة التي تعود لآلاف السنين، تعكس القيمة الثقافية والبيئية لشبه الجزيرة العربية كموطن أصلي للفهود”، واصفًا ذلك بأنه “يمثّل حافزًا للتوسع في الجهود المبذولة لاستعادة الفهد وإعادة تأهيله وفق استراتيجية ممنهجة متكاملة”.
الفهد الصياد
في العربية، الفهد الصياد، وفي الإنجليزية (Cheetah، والاسم العلمي Acinonyx jubatus)، وعلى المستوى الوطني منقرض تمامًا ( Extinct EX).
ويوجد في العالم قرابة 7100 فهد في البرية ضمن 34 مجموعة متفرقة بانحسار زد عن 90 % من توزيعه الطبيعي. وسبب هذا النقص الهائل هو فقد الموائل، إضافة إلى انحسار الفرائس والاتجار غير المشروع.
وتوصف الفهود بأنها من أكبر القطط حجمًا، وذات رأس صغيرة نسبيًا، وآذانها منخفضة ومستديرة، ولها شعر كثيف علـى الجانبين، وأطرافها طويلة ونحيلة، ومخالبها واضحة، وشعرها قصير نسبيًا على الظهر والجانبين، وأطول على البطن، وتغطي أجسامها بقع سوداء متغيرة الحجم، واللون العام لأجسامها برتقالي، ويصبح شاحبًا تدريجيًا على الجوانب، وأبيض في منطقة الصدر والبطن.
وموطن الفهود بشكل أساس في الصحارى، والمناطق شبه الصحراوية، والمناطق الجافة المفتوحة، وسفوح التلال والسهول.
الفهود نهارية المعيشة، وتتنوع فرائسها من الثدييات الصغيرة مثل القوارض والظلفيات والطيور.
الاكتشاف المذهل.. الانطلاقة
في خطوة مهمة نحو فهم أعمق للتنوع البيولوجي في المملكة، أعلن المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية عام 2022م، عن اكتشاف بقايا 17 فهدًا صيادًا بعضها مومياوات محفوظة بشكل طبيعي. هذا الاكتشاف أكد أهمية الحفاظ على التراث الطبيعي للجزيرة العربية، وحث على بذل المزيد من الجهود لاستكشاف الكهوف والدحول والتعرّف إلى كنوزها البيولوجية. وأسهم هذا الاكتشاف في إجراء أبحاث وافية لتحديد أسباب انقراض الفهد الصياد، ودراسة تركيبه الوراثي، ووفّر معلومات قيمة حول توزيعه وبيئته الطبيعية في الماضي. وسيفتح آفاقًا جديدة أمام الباحثين لدراسة التفاعلات بين الأنواع المختلفة في النظام البيئي للجزيرة العربية. كما أن الأمر سيشكل حافزًا إضافيًا لتنفيذ برامج إعادة توطين الأنواع المهددة بالانقراض، بما في ذلك الفهد، وذلك للحفاظ على التوازن البيئي وضمان استدامة الحياة البرية في المملكة.
يُعدُّ الفهد الصياد من الأنواع المنقرضة تمامًا في الجزيرة العربية منذ أكثر من 40 عامًا، وعيناته المحفوظة في المتاحف أو مراكز الأبحاث شديدة الندرة. وتمثّل العينات المكتشفة الدليل المادي الوحيد على وجوده في المملكة. وهي أول دليل قطعي على انتشاره في الجزيرة العربية، وتدل على أنه كان ينتشر في مجموعات في شمال المملكة.
وتم هذا الاكتشاف في أحد الدحول في سهول محافظة رفحاء، وتمكّن باحثو المركز من تحديد زمن نفوقها واستخلاص DNA والتركيب الوراثي، وتحديد النوع ومقارنته بالتسلسل الجيني للفهود الموجودة حاليًا لدى المركز في مراكز الإيواء ومجموعات الفهود المنتشرة بالعالم.
جهد بحثي جبار
في إطار جهودها لدراسة التنوع البيولوجي في المملكة، أجرت فرق البحث في المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، مسحًا لأكثر من مئة كهف ودحل، سعيًا لفهم التنوع الأحيائي الحالي والتاريخي لهذه البيئات الفريدة.
وفي اكتشاف أثار دهشة العلماء، عُثر على بقايا موميائية لفهود في أعماق كهوف شمال المملكة العربية السعودية خلال عمليات استكشاف أُجريت في صيف عام 2022.
في البداية عُثر على 17 عينة، وبعد توسيع البحث وصل عدد المكتشفات إلى 63 عينة راوحت بين أجزاء كاملة وبقايا مختلفة، وكانت 5 مومياوات كاملة، و22 جمجمة، وهيكلًا عظميًا كاملًا، و33 جزءًا من الهيكل العظمي، و2 من أجزاء المومياء.
في السينما
تم تصوير الفهد باعتباره حيوانًا بريًا مثيرًا للإعجاب في كثير من الأفلام على مر السنين، ومن هذه الأفلام:
القطط الإفريقية : يقدِّم هذا الفيلم الوثائقي المذهل نظرة حميمية على حياة الفهود في السافانا الإفريقية.
الفهد (1989) : فيلم مناسب للعائلة، عن صبي صغير يصادق شبل الفهد.
Duma – 2005 : قصة مؤثرة لفهد يتيم يصبح أفضل صديق وحيوان أليف لصبي صغير يعيش في جنوب إفريقيا.
في معاجم اللغة
في المعجم الوسيط: الفهد سَبُعٌ من الفصيلة السنّورية، بين الكلب والنمر، لكنه أَصغر منه، وهو شديد الغضب، يُضرَب به المثل في كثرة النوم والاستغراق فيه. يقال: هو أَنْوَمُ من فهد. والجمع أَفْهُدٌ، وفُهُودٌ.
في لسان العرب: الفَهْدُ: معروف سبُع يصاد به، وفي المثل: أَنْوَمُ من فَهْدٍ، والجمع أَفهُد وفُهُودٌ، والأُنثى فَهْدَةٌ، والفَهَّادُ صاحبها. ويقال للذي يُعَلِّم الفَهْدَ الصيد: فَهَّاد.
ورجل فَهْد: يُشبَّه بالفهد في ثقل نومه. وفَهِدَ الرجلُ فَهَدًا: نام، وأَشبه الفهد في كثرة نومِه وتمَدُّدِه وتغافلِه عما يجب عليه تَعَهُّدُه.
أصوات الفهد
يسمُّى صوت الفهد في اللغة العربية “الغطيط”، كما ورد في معجم المعاني.
وتمتلك الفهود كثيرًا من الأصوات التي تستخدمها بحسب حالتها المزاجية ووضعياتها المختلفة، ومنها: الخوار، والهدر، والأنين، والهسهسة، والعواء، والخرخرة، والغرغرة، والتأتاة.
صغار الفهد
يُطلق على صغار الفهود اسم جرو، ويطلق عادة على صغار الكلاب والسباع والأسود. ويُطلق عليها أيضًا (شبل).
- وزن صغير الفهد يُراوح بين 150 جرامًا و300 جرام عند الولادة.
- تلد الأنثى بعد حمل يدوم 3 أشهر.
- تولد الجراء الصغيرة بالفرو المميز نفسه الذي يميز الفهود الكبيرة.
- صغار الفهود تتعلم الصيد مثل أمهاتها منذ الشهر السادس تقريبًا، وتبلغ عندما تتم السنة الثانية من عمرها، أو الثالثة على أكثر تقدير.
ويمثل اكتشاف هذه المومياوات دليلًا ماديًا مهمًا على وجود الفهود في المملكة، وهو ما يثير كثيرًا من التساؤلات حول سلوك هذه الحيوانات واختيارها لهذه المواقع الدفينة كمأوى، على الرغم من عدم اعتيادها العيش في الكهوف. فكيف وصلت هذه الحيوانات إلى هذه الأماكن المعتمة؟ وما الظروف التي أدت إلى تحنيطها بهذه الطريقة؟
تقنيات متقدمة وأسئلة محيرة
تطرح مومياوات الفهود المكتشفة كثيرًا من الأسئلة المثيرة للاهتمام، وهي تمثل كنوزًا علمية حقيقية، تحكي قصصًا عن الحياة في عصور سابقة. ومع التطور المتسارع للتقنيات الحديثة، بات بإمكان العلماء الآن استكشاف هذه المومياوات بشكل أكثر عمقًا ودقة. وهذا ما فعله المركز بالضبط من خلال فرق متخصصة من العاملين فيه، وبالتعاون مع باحثين من جامعات سعودية وعالمية، أخضعت هذه العينات لمختلف أنواع الدراسة والتحقق باستخدام تقنيات متطورة شملت تقنية الكربون المشع C14 لتقدير العمر، وتحليل الحمض النووي لتحديد النوع، والأشعة السينية لمعرفة التغيرات الجسدية، والأشعة المقطعية لتحديد حالة المومياء الداخلية وإعداد نماذج ثلاثية الأبعاد، وتحليل محتوى الأحشاء الميكروبية “الميكروبيوم”.
قبل 4223 سنة
من خلال تحليل عينات من الكربون المشع (C14) في مختبرات متخصصة بجامعة سالينتو في إيطاليا، تمكّن الباحثون من تحديد عمر هذه المومياوات بدقة متناهية. فقد أظهرت نتائج تحليل الكربون المشع أن أقدم هذه المومياوات يعود تاريخها إلى حوالي 4223 عامًا، بينما يعود تاريخ أحدثها إلى 127 عامًا.
تحديد النوع
في إطار شراكة بحثية مع مختبرات الجينات في النمسا وفنلندا، بالإضافة إلى جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، جرى استخلاص الحمض النووي للميتوكوندريا من ثلاث عينات بهدف تحديد هويتها الجينية. وقد أشارت النتائج إلى أن هذه العينات تنتمي إلى نوع قريب من الفهد الآسيوي.
واُستخلِص الجينوم الكامل من ثلاث عينات من إجمالي خمس عينات وتحليلها بدقة. وأظهرت النتائج أن بعض العينات الأقدم تحمل بصمات وراثية قريبة من السلالات الفرعية الإفريقية، وهو ما يدعم فرضية وجود صلة تطورية قوية بين هذه العينات والمجموعات الإفريقية. وإن اكتمال الفحوصات الجينية قد يحدد تاريخ تلاقي تحت الأنواع الآسيوية والإفريقية في شبه الجزيرة العربية، وهو ما يجعلها نقطة الاتصال بين هذه الأنواع.
أسرار التحنيط
وخضعت المومياوات المكتشفة لسلسلة من الفحوصات المتقدمة، شملت التصوير المقطعي المحوسب ثلاثي الأبعاد والأشعة السينية عالية الدقة لتوفير صور تفصيلية لهيكل العظام والأنسجة الرخوة داخل المومياء دون الحاجة إلى فتحها. وتم إنشاء نماذج ثلاثية الأبعاد باستخدام بيانات التصوير المقطعي، وبناء نماذج رقمية دقيقة للمومياوات لتسهيل الدراسة والتحليل. وجرى استخلاص قياسات دقيقة لأجزاء مختلفة من الهيكل العظمي، ولا سيَّما تلك المرتبطة بتقدير العمر عند الوفاة.
وأظهرت نتائج الأبحاث أن العينات محفوظة بحالة استثنائية، حيث بقيت العظام والأنسجة الرخوة سليمة بشكل يفوق ما هو متوقع حتى في عمليات التحنيط البشرية التقليدية، وهذه الحالة الفريدة للحفظ تفتح آفاقًا جديدة لدراسة هذه الكائنات. وتمكَّن الباحثون من تصوير دماغ الكائن بدقة عالية باستخدام تقنيات الأشعة، وسيخضع لنوعين من التحاليل: كيميائي حيوي وفحص للخلايا العصبية لفهم الآليات الطبيعية التي أدت إلى تحنيط الدماغ وحفظه على هذا النحو.
وكشفت دراسة العظام عن سلامتها التامة وخلوها من أي تشوهات، وهو ما يستبعد فرضية الانغلاق الوراثي كسبب للنفوق.
وكشف الفحص الميكروبيولوجي لأحشاء المومياء عن وجود محتويات داخلية متبقية، وهو ما يتيح فرصة فريدة لاستكشاف التركيب الجيني للميكروبات المعوية للأنواع المنقرضة. ومن المتوقع أن يسهم هذا التحليل في فهم أعمق للخصائص الفسيولوجية والطفيلية للفهد الصياد، وتحديد العوامل البيئية والميكروبية التي أدَّت إلى نفوقه.
وتُجرى حاليًا أبحاث مكثفة لدراسة أسباب التحنيط الطبيعي وتحديد العلاقات الوراثية بين عينات الفهود المكتشفة، وستُنشر نتائج هذه الأبحاث في مجلات علمية مرموقة، وهو ما يسهم في تعزيز برنامج إعادة توطين الفهود في المملكة من خلال فهم أعمق للتنوع الوراثي وتوزيعه الجغرافي.
برنامج يعزِّز الآمال في إنشاء مجموعة تتيح النمو المستدام للفهد في المملكة
فريق البحث
تجاوز عدد الفريق الذي عمل على تحقيق هذا الإنجاز أكثر من 40 مشاركًا بين باحث ومختص وعالم وطبيب من المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية والجامعات السعودية وكثير من الجامعات العالمية
عقد استعادة النظام البيئي
أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة 2020 – 2030
التوازن البيئي
تؤدي المفترسات الكبيرة – ومن أهمها الفهود – دورًا محوريًا في التوازن البيئي
متابعة إعلامية وحضور كبير على وسائل التواصل
لقي الإعلان عن ولادة أربعة أشبال من الفهد الصياد، اهتمامًا محليًا وعالميًا كبيرًا، انعكس على التغطية الإعلامية الواسعة والحضور الكبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم. وأبرزت التغطيات والحملات التزام المملكة العربية السعودية بحماية الأنواع المهددة بالانقراض، وناقشت أهمية الحفاظ على النظم البيئية، إلى جانب الإشادة بجهود المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية في المملكة ومختلف الجهات المعنية. وتمت مشاركة صور ومقاطع فيديو رائعة للأشبال الصغار.
قصة مثل: لاَ بدَّ صَيَّاد الْفَهُود يُصَادْ
والمعنى:
لابد لمن يصيد الفهود من أن يصيده غيره في يوم من الأيام.
يضرب للشخص القوي الجريء يُسَلّطْ عليه غيره أقوى منه أو تذهب قوته حتى يستطيع ضعيفٌ التغلب عليه.
قال الشاعر العامي إبراهيم بن جعيثن من قصيدة:
ولا ييأس العاقل فالأيام تنقضي
وكما قيل “صيَّاد الفهود يْصَاد”
وفي الصيد بالفهد في القديم جاء قول أبي نواس:
لا خَيْر في الصيد بغير فَهْدِ
من كتاب (الأمثال العامية في نجد)، تأليف محمد بن ناصر العبودي
لماذا الفهد؟
في إطار مبادرة الأمم المتحدة لاستعادة النظم البيئية لعام 2020، تبرز أهمية المفترسات الكبيرة، وعلى رأسها الفهود، في الحفاظ على صحة وسلامة النظم البيئية. فمن خلال تنظيم أعداد الفرائس، تسهم الفهود في الحفاظ على الكفاءة الرعوية للنظم البيئية، وتعمل على تقوية صحة الفرائس بإزالة الأفراد الضعيفة منها. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي الفهود دورًا مهمًا في تنوع الغطاء النباتي من خلال الحد من الرعي الجائر وتسريع عملية انتشار البذور.
وتُعدُّ الفهود حجر الزاوية في الحفاظ على التنوع البيولوجي في بيئاتها الطبيعية. وهي بمنزلة قائد الأوركسترا الذي يقود جوقة التنوع الأحيائي في النظم البيئية ويضبط إيقاع التوازن بين الفرائس. ثم إنها تضمن توازنًا دقيقًا في الأنظمة البيئية من خلال تنظيم أعداد الفرائس المتعددة، التي تشمل الظباء بأنواعها المختلفة مثل المها العربي والريم والأدمي، بالإضافة إلى الأرانب البرية وغيرها. وهذا التوازن ضروري للحفاظ على صحة النظام البيئي ومرونته. كما أن إعادة توطين الفهود سيساعد في إنجاح برامج التوطين التي أطلقها المركز، حيث نجح بالتعاون مع الشركاء في المحميات الملكية وفي المشاريع الكبرى والعُلا والقطاع الخاص ومركز الغطاء النباتي ومكافحة التصحر وغيرها، في إطلاق أكثر من 7 آلاف من الكائنات التي جرى إكثارها في مراكز الإكثار. وبعودة الفهود ستكون هذه البرامج أكثر استدامة؛ لأن الفهود هي ضابط الإيقاع لتوازن الأعداد مع الكفاءة الرعوية ضمن نطاق توزيعها الجغرافي والطبيعي؛ إذ تؤدي المفترسات الكبيرة أدوارًا مهمة في ذلك، وفي الحفاظ على حيوية القطعان، فهي تتغذى على الحيوانات المريضة والضعيفة والمصابة، ومن ثَمَّ تجدد حياة القطعان وتجعلها أكثر حيوية، وستكون النظم البيئية متجددة باستمرار. ومن هنا، سيكون الإنسان أكثر صحة واستدامة.
الفهد في شبه الجزيرة
تشير الدلائل التاريخية إلى وجود الفهد في شبه الجزيرة العربية منذ آلاف السنين. فقد عُثر على نقوش صخرية تصوِّر الفهود في مواقع أثرية متعددة مثل شويمس وجبة وحائل وموقع الفاو. بالإضافة إلى ذلك، وثّق رحالة غربيون منذ منتصف القرن التاسع عشر وجود الفهود في المنطقة، وأكدت الروايات الشفوية لأبناء المنطقة مشاهداتهم لهذه الحيوانات حتى منتصف القرن العشرين.
وحتى وقت قريب، لم يكن بالإمكان تحديد الأنواع الحيوانية التي كانت موجودة في السعودية بشكل قاطع لعدم وجود أدلة مادية كافية. ولكن المفاجأة حصلت مع الاكتشاف المثير للمومياوات في شمال المملكة. وهذا الاكتشاف العلمي، الأول من نوعه على مستوى العالم، يُعدُّ إثباتًا ماديًا قويًا ودليلًا ملموسًا يفتح نافذة على عصور سابقة. والأهم أنه يُمهِّد الطريق لاستكشاف آفاق جديدة في المستقبل لإعادة إطلاق الفهد الصياد وفق خطة علمية مدروسة وتحديد أفضل الأنواع التي تناسب البيئة المحلية. مع التأكيد أن وجود الفهود في شبه الجزيرة العربية ليس قديمًا منذ آلاف السنين فحسب، بل هو ممتد عبر التاريخ، ولم ينقطع هذا الوجود الذي سُجِّل من قبل الرحالة أو الأجداد ولم يكن طارئًا، وكان من السلالة الآسيوية،
وسلالة شمال إفريقيا. وأثبتت الأبحاث الجديدة للمرة الأولى أن التقاء السلالات الآسيوية والإفريقية كان على أرض المملكة، على أن يتم تحديد التاريخ بدقة باستكمال هذه الأبحاث.
تحديات الاستعادة واختيار النوع
تواصل المملكة جهودها المكثفة في مجال الحفاظ على الفهد الصياد من خلال توظيف البحث العلمي، وتطبيق استراتيجيات ابتكارية، وإقامة شراكات تعاونية لإعادة توطين الفهد الصيّاد في موائله التاريخية.
وتمكَّن باحثو المركز، بمشاركة خبراء عالميين، من تحديد زمن انقراض هذه الكائنات واستخلاص تركيبها الوراثي، وتحديد تحت النوع ومقارنته بالتسلسل الجيني للفهود الموجود حاليًا لدى مراكز الإيواء التابعة للمركز ومجموعات الفهود المنتشرة بالعالم، وهذا ما يدعم البرنامج الذي يعمل عليه المركز حاليًا لإكثارها وإعادة توطينها في المملكة.
وقد حدَّد المركز النوع المناسب لبرنامج الإكثار وإعادة التوطين، وهو فهد شمال شرق إفريقيا؛ لأنه الفهد الأقرب جينيًا للفهود المكتشفة، وله بيئات متشابهة، وأعداده قليل نسبيًا، ولتوفر مصدر كافٍ لتزويد نواة إكثار في المملكة. وقد جرت دراسةأنواع أخرى، وهي: الفهود الآسيوية، وفهود شمال غرب إفريقيا، وفهود شرق إفريقيا وجنوب إفريقيا، وتم استبعادها لعدم إمكانية نجاح تكاثرها لعوامل مختلفة.
وتوافق قرار المركز باختيار فهود شمال شرق إفريقيا مع توصيات برنامج الأمم المتحدة للبيئة، واتفاقية الأنواع المهاجرة، والمجموعة التخصصية للسنوريات في الاتحاد الدولي لصون الطبيعة. كما توافقت مع نتائج اختيار تحت النوع لشمال شرق إفريقيا (A.j.soemmeringii)، التي توصل إليها فريق المركز. ولقي التقدير والترحيب من المشاركين في الملتقى المتخصص بالفهود، الذي عُقد العام الماضي بحضور أكثر من 150 مختصًا، وجرى عرض بعض هذه النتائج المتعلقة بالإكثار والاستعادة وكانت محط إعجاب وثناء.
الاستراتيجية الوطنية
أحمد البوق، مدير عام المحافظة على الحياة البرية في المركز، يؤكد “مع ما تحقق من إمكانات وإنجازات، كان من الضروري بلورة رؤية ورسالة واضحتين .لذا، عمل المركز – بالتعاون مع نخبة من الخبراء المحليين والعالميين المتخصصين في مجال الفهود – على إعداد استراتيجية وطنية شاملة وخارطة طريق تفصيلية لاستعادة الفهود إلى بيئاتها الطبيعية في المملكة. وقد استغرق إعداد هذه الخارطة جهدًا ووقتًا طويلين لضمان شموليتها وفاعليتها. وتعتمد الاستراتيجية على أربعة محاور رئيسة لاستعادة الفهود إلى بيئتها الطبيعية:
- إنشاء مراكز تكاثر وتوحيش لضمان توفير أعداد كافية من الفهود لإعادة التوطين.
- تحديد مناطق محمية واختيار المواقع المناسبة جغرافيًا وبيئيًا لإعادة الفهود، مع التأكد من توافر الفرائس الطبيعية.
- الشراكة المجتمعية وتعزيز التعاون مع المجتمع المحلي للحفاظ على الفهود واستدامتها.
- إعادة التوطين ونقل الفهود إلى مواطنها الأصلية وإنشاء مجموعات تكاثر طبيعية ذاتية الاستدامة.
ويتفرع عن هذه المحاور الأربعة كثير من الاستراتيجيات المتنوعة التي تهدف بالنهاية إلى إنشاء مجتمع مستدام للفهود؛ إذ سيتم تحديد المناطق الأساسية وحمايتها من خلال إنشاء المتنزهات الوطنية والمحميات ومناطق الحماية الأخرى. وكذلك استعادة الموائل عبر مجموعة من الأنشطة لتحسين الظروف البيئية للمناطق المختارة، وتشمل على سبيل المثال: إعادة الغطاء النباتي وزراعة الأعشاب والشجيرات والأشجار المحلية لتوفير الغذاء والمأوى لأنواع الفرائس، وإدارة المياه لضمان توافر المياه الكافية من خلال استعادة مصادر المياه الطبيعية، والسيطرة على الحيوانات المفترسة عبر إدارة مجموعات الحيوانات المفترسة التي تتنافس مع الفهود على
الفريسة، وتعزيز جهود مكافحة الصيد الجائر وتنفيذ تدابير صارمة لمكافحته لحماية الفهود وفرائسها. وإضافة إلى ما سبق، سيتم إنشاء الممرات للحياة الفطرية لربط مناطق الموائل المعزولة، وهو ما يسمح للفهود بالتحرك بحرية وزيادة التنوع الجيني، والعمل مع المجتمعات المحلية لتعزيز ممارسات الاستخدام المستدام للأراضي التي تقلل من الآثار السلبية على البيئة.
خارطة طريق
وخارطة الطريق لهذه الاستراتيجية، كما يقول الأستاذ البوق، مهمة جدًا؛ لأنها توضح ماذا سنعمل وكيف سنعمل وأين سنعمل؟ ومع ذلك، فالخارطة مرنة لأي تطورات قد تطرأ. وأوضح أن الخارطة بدأ تنفيذها منذ العام الحالي وتستمر لغاية عام 2029، مقسّمة على مراحل مختلفة، وتشمل: بداية الإكثار، وتكوين مجموعات للإكثار، وتحديد مواقع الطلاق، ثم تحسين حالة هذه المواقع، الاطلاق برامج الإكثار والتوحيش، ثم التوعية وتدريب الفرق في الميدان وتحقيق الشراكة المجتمعية، والبدء في الإطلاق التجريبي والتدريب والترصد وتعزيز الحماية، ثم الوصول لإعادة التوطين في عام 2029. وسيجري تأسيس مجموعات فهود برية مترابطة في المملكة، على أن يتم في عام 2035 التوسُّع في برامج الاستعادة للدول الراغبة بالاستفادة من التجربة السعودية.