منذ قديم الزمان؛ شطح خيال البحّارة، فأعطاها صفة “الحورية”. أثار خيالهم مشهدها حين تتناول طعامها أو ترضع صغارها، خاصة حين يرونها من بعيد وهي متكئة على إحدى جانبيها. وسط العتمة، أو الضباب؛ كانت تظهر وكأنّها أنثى بشرية، بشعر منسدل، وخصرٍ ضامر، على الرغم من أن كلّ ما يتلو الخصر نزولاً؛ إنما هو شكلٌ سمكيٌّ تماماً.
جعفر البحراني
تحرّكت هورمونات “الإثارة” لديهم، فراحوا ينقلون إحساسهم بما توهموه إلى أحاديثهم وحكاياتهم حين يعودون إلى أهليهم. وربما بالغ بعضهم؛ فصنع من نفسه بطلاً كامل الرجولة والفحولة في القصة التي رواها، بكامل “هرائها”.
ثم انتقلت الحكايات إلى مرويّات. ثم انتقلت المرويات إلى مدوّنات أولية في التأليف، مثل حكايات “ألف ليلة وليلة”، ومغامرات السندباد، وملك العجم، والمشعوذة التي تعيش في عالم مظلم.
هكذا؛ ترسّخت صورة “الحورية” في ثقافات كثير من شعوب العالم. فصار ذلك المشهد المتوهَّم لأنثى نصف بشرية، هو المستمرّ في الحكايات. ولم يتغيّر هذا الوهم المستمرّ حتى بعد أن شاهدوا “الأطوم” بأمهات عيونهم، بقيت “الحورية” الوهمية شيئاً آخر مختلفاً عن “الأطوم” الحقيقية.
أنصاف حقائق
مع الزّمن تعدّلت بعض الأوهام إلى أنصاف حقائق، وإلى حقائق كاملة
أيضاً. في الثقافة العربية؛ هناك عروس البحر، وهناك بقرة البحر، وناقة البحر، وهناك الحنفاء، والجلد، والطويلة، والدروع. ولدى ابن منظور في لسان العرب ما يساعد على التعريف العلمي، وربطه بالمتخيَّل الاجتماعي، فهو يقول “والأطوم: سمكة في البحر يقال لها الملصة والزالخة”. يضيف “الأطوم: البقرة، قيل: إنما سميت بذلك على التشبيه بالسمكة لغلظ جلدها”.
كائن بحري خجول صنعته نظرة “ذكــورية” في خيال الشعوب.
حصحصةُ الحق عبر العلم؛ لم تُزح “الوهم” في الأسطورة بالطبع. ولكنّ أصبح هناك فاصلٌ واضح بين الاثنين. فالعلم يقول إن “الأطوم” يشبه خروف البحر إلى حد كبير. وعلى الرغم من أنهما ينتميان إلى فصيلة الخيلانيات المائية الآكلة للأعشاب، فإن هناك اختلافات كثيرة بينهما، فالأطوم حيوان بحري لا يعيش في الأنهار ويفضل الأجواء الدافئة، فضلًا عن وجود اختلافات بينه وبين خروف البحر في الحجم والكتلة وفي شكل الذيل والهيكل العام.
دخل قائمة التهديد بالانقراض.. وجهود سعودية لحمايته في الخليج والبحر الأحمر.
في 71 بلداً
وجود “الأطوم” في الضفة الغربية من الخليج العربي وفي البحر الأحمر قديم، كما هو حال 71 بلدًا أيضاً. ويبدو أنه وجد في مياه الخليج العربي الدافئة وخلجانه الضيقة موئلًا آمنًا يحميه من هجمات أعدائه. كما وجد المرعى الخصب من النباتات المختلفة التي يقتات عليها، وهو ما يوفر له مقومات الموئل في هذه البيئة المثالية لحيوان يميل بطبعه إلى الاستقرار، وهو استقرار ليس بالمعنى الحرفي وإنما فيه جانب من التنقل بين مكانين أو أكثر على اختلاف المواسم، وتوفر الطعام.
يعيش الأطوم (Dugong dugon) في مجموعات، وقد يتجاوز عدد القطيع الواحد فيها إلى أكثر من 600 حيوان، وينتشر في أستراليا والخليج العربي وأجزاء من البحر الأحمر والساحل الشمالي والشرقي لشرق إفريقيا وسريلانكا والهند وإندونيسيا وجزر المحيط الهادئ.
وكان من الحيوانات التي يقبل بعض سكان تلك الشواطئ على صيدها بغرض الأكل والاستفادة من جلودها وزيوتها، وهو أمر أدى إلى تناقص أعدادها بشكل كبير.
قائمة الطعام
يتغذى الأطوم على مجموعة من الأعشاب البحرية الاستوائية وتحت الاستوائية، ويصل ما يأكله يوميًا من الأعشاب إلى 40 كيلوجرام، وتشمل قائمة طعامه نباتات انهالس (Enhalus)، هالوفيلا (Halophila)، هالودول (Halodule)، سايمودوسيا (Symodocea)، ثالاسيا (Thalassia)، ثالاسودندورون (Thalasodendron)، سيرنجوديوم (Syringodium)، زوستيرا (Zostera)، كما يتناول الأطوم أيضا الطحالب البحرية ولكن بكميات قليلة جدًا.
لاعب توازن بيئي
للأطوم أهمية بالغة في الحياة الفطرية البحرية، فهو لاعب أساسي في تحقيق التوازن البيئي للأحياء المائية والمساعدة في الحفاظ على صحة مروج الأعشاب البحرية التي تعتبر موائل أساسية لنمو وحضانة الأسماك والقشريات والسلاحف. إلا أنه حساس جدًا لأي تغيرات في نظامه البيئي، فقد انقرض الأطوم وظيفيًا في مياه الصين، وأصبح وجوده في أي بيئة بحرية مؤشرًا طبيعيًا إلى صحة النظام البيئي وتنوعه. وهو الأمر الذي حرصت عليه المملكة العربية السعودية، فقد عملت على حماية أحواض الأعشاب البحرية في مياه الخليج العربي وسواحل البحر الأحمر، وكان من بين تلك الأحواض والمواقع خليج سلوى وشواطئ الجبيل، وجزر فرسان وأم القماري، التي تعد من أهم موائل حيوان الأطوم، كما تعد نموذجًا مميزًا بين مختلف البيئات والسواحل البحرية في العالم التي تعد موئلًا لهذا الحيوان الخجول والحساس.
تهديد الانقراض
على الرغم من إدراجه من قبل الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة في العام 1982 على قائمة الكائنات المهددة بالانقراض على مستوى العالم، فإن أعداد هذا الحيوان كانت تتناقص بشكل حاد في العديد من البلدان، وذلك لأسباب مختلفة؛ من بينها أنه قليل التكاثر، فهو ينجب عجلًا واحدًا بعد حمل يمتد بين 13 – 14 شهرًا. وتحتاج رعاية العجل إلى 18 شهرًا. ويصل عمره إلى 70 سنة، إلا أن تكاثره يبقى محدودًا جدًا، فهو يبدأ بالتزاوج والحمل بين عمر 4 – 10 سنوات، وبمعدل تزاوج مرة واحدة كل 3 – 7 سنوات، ولهذا لا تتجاوز نسبة نمو أعداده في أفضل التقديرات عن 5% سنوياً.
جهود سعودية
ضمن مساعي الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة وجهوده الحثيثة في حماية هذا الحيوان من الانقراض، أبرم اتفاقيات مختلفة حول العالم، وأطلق اسم أطوم المحيط الهادئ على العام 2011 لتشجيع دول العالم على رعاية وحماية هذا النوع النادر من الثدييات وموائلها البحرية.
ومنذ ذلك الحين أظهرت المملكة العربية السعودية اهتمامًا بالغًا بهذا الحيوان، ووقعت في العام 2013 اتفاقية لحمايته وحماية موائله الطبيعية، وسنّت مجموعة من الأنظمة والقوانين، وعقدت مجموعة من الاتفاقيات الإقليمية والدولية. وفي مرحلة سابقة؛ عملت الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها (المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية حالياً) إلى جانب هيئات ووزارات سعودية أخرى على حماية الحياة الفطرية برًا وبحرًا، وقد شملت هذه الحماية 11500 أطوم، منها 7500 حيوان في مياه الخليج العربي و 4000 حيوان في البحر الأحمر.
حوادث مميته
الأطوم حيوان بطيء الحركة، ولا يتجاوز مدى الرؤية لديه أكثر من 5 أمتار، إلا أنه يتميز بحاسة سمع قوية تمكنه من تحديد مكان الجهة المثيرة وهي على بعد 150 متر. وأشارت دراسات إلى أن الشعر الجيبي على جسم الأطوم هو الأكثر تطورًا بين جميع الحيوانات، ويُظن أن له دورًا كبيرًا في تحديد ماهية الأجسام التي تتحرك بالقرب منه، وقد جعلت هذه الحاسة الأطوم حيوانًا خجولًا يهرب أثناء سماعه أصوات القوارب.
وإلى هذا السبب يُعزى نقص كبير في الأبحاث العلمية المتعلقة بسلوكه ومعيشته على مستوى العالم، ومع ذلك أيضًا فقد تعرض الأطوم للموت مرارًا من جراء اصطدامه بالمراكب.
ولم يكن البحارة في الخليج العربي والبحر الأحمر يستهدفون الأطوم بالصيد. مع ذلك؛ في أحيان قليلة تكون عرضة للموت بسبب نشوبها في شباك الصيد، وقد وصفها بعضهم بأنها حيوان يموت سريعًا، وأن محاولات إخراجه حيًا ضئيلة جدًا، لكونه يغرق إذا بقي تحت الماء لأكثر من 8 دقائق دون أن يخرج للتنفس.
وفي العام 1974 استخرج 4 بحارة في تبوك من ميناء “حر” شمال محافظة ضباء حيوان أطوم طوله 3,30 أمتار، ولكونه غريبًا ونادرًا، فقد تم نقله بسيارة خاصة إلى جامعة الملك عبد العزيز في جدة للاستفادة منه في الأبحاث العلمية، وتم تحنيطه بعد ذلك، وما يزال موجودًا حتى الآن في متحف كلية علوم البحار.
من الخرافة المكتوبة..
إلى الفنون
مثلما شطح خيال البحّارة في قديم الزمان؛ شطح، أيضاً، خيال الفنانين والسينمائيين والمُنتجين في العصر الحديث. ومنذ العام 1953 ظهرت حوريات البحر في عشرات من الأفلام العالمية، بعض هذه الأفلام أُنتج خِصّيصاً بعنوان يدلّ على حوريات البحر، أو يُشتقّ منه.
في صدارة ذلك “بيتر بان” فيلم مغامرات كورتوني أصلاً، تحكي بطلته “ويندي” لشقيقيها الصغيرين مايكل وجون قصة من مغامرات الفتى المغامر بيتر بان الذي يعيش في نيفرلاند، الأرض التي لا يكبر فيها الأطفال أبدًا.
وفي العام 2003؛ أعيد إنتاج الفيلم الذي صُوّر في قارة أستراليا، ويحكي قصة قراصنة بحريين. وقد كان لحوريات البحر ظهور واضح في الفيلمين.
وهناك المزيد، مثل فيلم “أغنية من البحر” عام 2014، و “أكوا مان” و “أكوا مان والمملكة المفقودة”، و “ابنة الملك”، وباربي وحكاية حورية البحر”، و ” قراصنة الكاريبي”. كما ظهرت الحورية في الرائعة السينمائية “هاري بتوتر”.
وهناك فيلمان يحملان الاسم نفسه “حورية البحر”، أحدهما أُنتج في 1989، والآخر في العام الماضي 2023، وهو العام الذي شهد إنتاج فيلم “حورية البحر الصغيرة” أيضاً. إلى ذلك يمثل الفيلم إعادة إنتاج لفيلم “الحورية الصغيرة” المُنتج في العام 1975.