الإناث يدرن ظهورهن للذكورانهيار نظام مجتمع البابون
أمام شاشة كبيرة مرتبطة بمركز للاستشعار عن بعد، يشرح مدير النظم المعلوماتية في المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، المهندس خلف الشمري، أهم المعطيات المتعلقة بتوزيع قرود البابون، وأهم البؤر التي تنتشر فيها. وفي معرض حديثه أشار الشمري – عبر اللوحة – إلى أن جميع المعلومات التي يتم جمعها بواسطة الأقمار الصناعية أو غيرها من الوسائل؛ تجرى معالجتها من خلال الذكاء الاصطناعي، موضحًا أنه حتى شهر سبتمبر 2023م جرى معالجة 36 ألف قرد في 561 بؤرة لوجود قرود البابون في المناطق الغربية والجنوبية من المملكة، وعُولج أكثر من 36 ألف بلاغ، بجهود 34 فرقة ميدانية عملت في مشروع معالجة أضرار قرود البابون التي باتت تؤرق سكان المناطق القريبة منها.
الإناث الهائمات!!
أدى انهيار النظام الاجتماعي لقرود البابون إلى اضطرابات في مجتمعها، فحدثت المشكلة الخطيرة التي تسببت في تغيرات على مستوى الكائن.. تغيرات سلوكية وفسيولوجية كبيرة في هذه المجموعات البرية. فمن الجانب السلوكي، تحول هذا الكائن البري الذي كان ينفر من الإنسان إلى كائن مستأنس يعيش بالقرب من التجمعات البشرية ويحاول التقرب منها. أمَّا من الجانب الفسيولوجي، فقد أفضى تغير النظام الغذائي إلى تغيرات هرمونية بسبب التغذية البشرية عالية السعرات الحرارية؛ فأصبح سن النضج أقل مما كان عليه لدى الجنسين، وبالتالي انخفضت فترة الحضانة، وهذا ما أدى إلى تفشي ظاهرة سلوكية جديدة وغريبة وهي ما تسمى بظاهرة «الإناث العائمات». ويمكن تلخيص هذه الظاهرة – التي لم تكن موجودة في المجموعات البرية – بقيادة
أنثى البابون لمجموعة من بنات جنسها من الإناث، وذلك بعدما كانت أنثى البابون خاضعة لمنظومة الذكر منذ آلاف السنين، وحدث ذلك بسبب تفكك وتخلخل النظام الاجتماعي لدى هذا الكائن البري الفطري.
وبالتالي..
لم تكن مشكلة الإناث الهائمات خاصة بالبابون فقط، بل تجاوزت حتى أصبحت مزعجة، بل ومهددة أحيانًا، لحياة السكان والزوار في بعض المناطق. كما تسبب هذه القرود بعد تغير سلوكها في الإخلال بالتوازن البيئي، ملحقةً الضرر بالمحاصيل الزراعية، ومهددة للسلامة العامة بهجماتها المفاجئة على المارة والمركبات. بالإضافة إلى تشوه المشهد الطبيعي والسياحي
السديس: البابون رأس قاطرة تسحب وراءها أنواعًا فطرية كثيرة، والمشكلة لها انعكاسات بيئية واقتصادية وصحية خطيرة.. والحل من خلال أهداف البرنامج والمحميات.
للمناطق التي تعيش فيها. ويرى بعض المختصين في الحياة الفطرية أن أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى ظهور هذه الظاهرة، هو التغذية البشرية؛ إذ يقدم بعض المتنزهين والمسافرين لتلك القرود، الأطعمة عالية السعرات الحرارية، مما يجعلها تتكاثر بسرعة، وتقترب من المناطق المأهولة بشكل ملحوظ.
.. وبدأت المشكلة
قرود البابون من الحيوانات التي تعيش في المناطق الجبلية والصحراوية في شبه الجزيرة العربية، وتتميز بذكائها وقدرتها على التكيف مع الظروف البيئية المختلفة. ومع ذلك، فقد شكلت هذه الحيوانات مصدر تهديد وإزعاج في بعض المناطق من المملكة العربية السعودية؛ إذ تزايدت أعدادها بشكل كبير خلال فترة وجيزة لم تتجاوز الـ40 عامًا، مما أدى إلى العديد من المشكلات البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
تؤكد الدراسات وجود أربعة أسباب رئيسة لحدوث هذه المشكلة البيئية، ولعل أول الأسباب ما يتمثل في اختلال التوازن البيئي في مناطق موائل البابون، وذلك للنقص الحاد في الغذاء الطبيعي بسبب الجفاف وتغير طبيعة المنطقة مناخيًا. هذا، بالإضافة إلى زيادة أعداد البابون عن معدلها الطبيعي بسبب تناقص أعداد المفترسات أو غيابها، مثل: النمور والذئاب والضباع والعقاب الأسود.
أمَّا السبب الثاني، فيتمثل في التوسع الحضري وتأثيره السلبي على النظم البيئية. فالتنمية المتسارعة للمناطق السكنية والزراعية والطرق وسط الموائل الأصلية للقرود؛ أدى إلى تدهور بيئاتها وتجزئتها. كما أدى كل من الاحتطاب والرعي الجائرين إلى تدهور الغطاء النباتي من جهة، ونزوح بؤر تجمع القرود إلى داخل النطاق السكاني – داخل المدن – وفي محيطها من جهة أخرى.
والسبب الثالث لهذه المشكلة يعود إلى توفر مصادر غذاء بديلة، وذلك من خلال مصدرين رئيسين: أولهما الإطعام المباشر من قبل سكان المنطقة أو السياح في مناطق وجود قرود البابون، وثانيهما الإطعام غير المباشر من خلال ما تحتويه حاويات النفايات داخل المدن وعلى الطرقات والمكبات خارج المدن، لا سيما أن البابون يفضل هذين المصدرين من الأطعمة لاحتوائهما على طاقة غذائية أعلى من المصادر الطبيعية.
أمَّا رابع الأسباب، فهو ما كان من التغير السلوكي والفسيولوجي للبابون. فقد تغير السلوك الاجتماعي لدى قرود البابون من برية إلى مستأنسة بسبب الغذاء البشري، وتغير سلوك التكاثر داخل القطيع، فازدادت العدائية بسبب تكثف الأعداد في بؤر التجمع والصراع على الغذاء. هذا التكاثر المفرط للبابون، كان بسبب التغيرات الفسيولوجية التي أدت إلى تبكير سن النضج وتقليل الفترة الزمنية بين الولادات.
.. وتدخل المركز
تعود هذه المشكلة إلى أكثر من أربعين عامًا، وتتداخل مع كثير من المسببات التي أدت إلى خلل في التوازن البيئي، وانعكست على تزايد الأعداد. وعلى ذلك، فقد عكف المركز على تنفيذ برنامج يهدف إلى المعالجة المستدامة. ويكمن الهدف الرئيس من البرنامج في الحد من تزايد أعداد قرود البابون داخل المدن والمناطق الزراعية في غرب المملكة وجنوب غربها. وقد حصر البرنامج في مرحلته الأولى أعداد قرود البابون في هذه المناطق بأكثر من 40 ألف قرد، كما تجاوزت أعداد بؤر انتشار القرود في المناطق الست المتضررة 500 بؤرة.
ويحتوي البرنامج على مجموعة من المشاريع التي تحقق الهدف الرئيس؛ وهو ما يتمثل في إعادة التوازن البيئي في المناطق المتضررة في المملكة.
وتتطلب استدامة الحلول بعض الوقت لإحداث الأثر الملموس والمتابعة المستمرة للمعالجات المستدامة.
بالعلاج المتكامل والمستدام
يعمل المركز من خلال هذا البرنامج على تنفيذ حزمة من الحلول المتكاملة والمستدامة للمشكلة مع الجهات ذات العلاقة، والتي تتعلق بالكائن والإنسان والبيئات الطبيعية، وذلك بعد إجراء الدراسات المعيارية على مستوى العالم؛ لضمان عودة التوازن البيئي للمناطق المتضررة بشكل مستدام. ويهدف البرنامج الذي أطلقه المركز إلى تحقيق خمسة أهداف رئيسة على النحو الآتي:
• إعادة التوازن البيئي للنظم البيئية التي تأثرت بتزايد أعداد قرود البابون بشكل كبير من خلال تطبيق أفضل الممارسات العالمية.
• تكوين قاعدة بيانات بأعداد وتوزيع وانتشار كل ما يؤثر في قرود البابون؛ للمتابعة بشكل مستمر وتطبيق الحلول المستدامة.
• رفع مستوى الوعي بأهمية الحفاظ على الكائنات الفطرية المفترسة، وإيقاف الممارسات الخاطئة تجاه قرود البابون، من خلال التغذية المباشرة، أو غير المباشرة.
• المعالجة المتكاملة لمشكلة
تزايد أعداد قرود البابون، تؤثر بشكل مباشر في تحسين الوضع الاقتصادي للمناطق المتضررة.
• الدراسات البيئية والسلوكية لهذا النوع من قرود البابون، وفحص الأمراض المشتركة بين القرود والإنسان بشكل دوري، وإجراء الأبحاث المتعلقة بذلك.
.. وتم التنفيذ
ينفد البرنامج على ثلاث مراحل، وقد انطلقت المرحلة الأولى منه في ديسمبر 2021م، واستمرت حتى يوليو 2023م. وقد اشتملت المرحلة الأولى على دراسة وحصر الأعداد وتحديد بؤر المشاكل وطبيعتها (معرفة خط الأساس)؛ إضافة إلى دراسة وحصر الأعداد، وتحديد بؤر
بسبب التغذية البشرية عالية السعرات الحرارية، تغير نظام البابون الهرموني وتدنى سن النضج، فانخفضت فترة الحضانة؛ ما أدى إلى تفشي ظاهرة «الإناث العائمات».
اختلال التوازن البيئي والتوسع الحضري ومصادر الغذاء البديلة، أحدثت تحولات سلوكية وفسيولوجية لدى البابون، وفككت نظامه الاجتماعي الذي تقلده منذ آلاف السنين.
المشاكل ومعالجتها في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة. أمَّا المرحلة الثانية، فقد بدأت في مايو 2023م، وسوف تستمر حتى ديسمبر 2026م، بإذن الله. وتشتمل المرحلة الثانية على التحكم في أعداد وانتشار قرود البابون بالمعالجات المتكاملة، ويتم العمل خلالها عبر ثلاث مراحل. وستبدأ المرحلة الثالثة، التي تركز على استدامة الحلول، في ديسمبر 2026م وتستمر حتى عام 2030م.
البابون رأس القاطرة
في معرض حديثه حول مشكلة البابون وحلها، ومركزًا على نقاط جوهرية؛ تحدث لـ «الحياة الفطرية»، مدير برنامج معالجة أضرار تزايد أعداد قرود البابون المهندس عمر السديس، فقال: «لا تنحصر نظرتنا إلى البابون على أنه مشكلة نوع واحد فقط من الكائنات البرية، إنما هي مشكلة منظومة بيئية برمَّتها، ولها عدة مستويات متعلقة بالبيئات، وبالإنسان، وبالكائن نفسه.
• إن فهم الأسباب التي أدت إلى نشوء ظاهرة الاستئناس وتفاقمها، مهم جدًا كخطوة أولية في سبيل الحد منها؛ فقد أدى إهمال المعايير البيئية في عمليات التنمية المتسارعة في الماضي إلى تدهور بيئاتها الطبيعية وتجزئتها، وهذا ما جعلها تقترب من المناطق السكنية وتعتمد على التغذية البشرية. هذا، بالإضافة إلى مرامي النفايات المتخمة بالنفايات الغذائية الفائضة، التي أدّت دورًا رئيسًا في جذب المجموعات البرية من القرود إليها، وبالتالي تغيير أنماطها السلوكية ومعدلات التكاثر.
إن ظهور هذه المشكلة نجم – أيضًا – عن قتل المفترسات الطبيعية، كالنمور والذئاب والضباع وبعض أنواع النسور، سواء بشكل مباشر أو بالتسميم؛ فضلًا عن عامل تدهور الغطاء النباتي نتيجة للاحتطاب والرعي الجائرين، إلى جانب تقديم الأطعمة لها من الجانب البشري على الطرق العامة وفي الحدائق.
فالمشكلة الآن لها انعكاسات بيئية واقتصادية خطيرة على الإنتاج الزراعي، فضلًا عن الأخطار الصحية، ومضاعفات هذه المشكلة على الصحة العامة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السلامة العامة».
إضافة إلى الحلول المتكاملة التي يعمل عليها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، يرى السديس إمكانية إنشاء حدائق ومتنزهات ومناطق سفاري تحتوي قرود البابون التي يتم علاجها، بحيث تمثل هذه المناطق نقاطًا سياحية
جاذبة للزوار والتفاعل معها، ولربما يتم تنفيذ هذه الحدائق في المناطق التي تنتشر فيها هذه المشكلة حاليًا. ويضيف السديس: «أن عملية وضع حل جذري لهذه المشكلة، أمر ضروري ومهم جدًا.
وفيما أعتقد فإن البابون هو رأس القاطرة التي قد تسحب وراءها عشرات العربات، وفي كل عربة أنواع كثيرة من الكائنات البرية الفطرية!». وحول الحل الجذري، يقول السديس: «أعتقد أن الحل الجذري لكل هذه المشاكل يكمن في المحميات البيئية، وعلى ذلك نحن ماضون في تحقيق توجهات الرؤية بإنشاء 30% مناطق محمية في البر والبحر، بما يتوافق مع المستهدفات الدولية. وهذه المحميات سوف توفر بيئات سليمة مثالية لمختلف الكائنات بما يكفل الحفاظ عليها وعدم تعرضها للخطر».
500 ريال غرامة من يطعم البابون
استنادًا إلى اللائحة التنفيذية لحماية الحياة الفطرية ومنتجاتها ومشتقاتها المرتبطة بنظام البيئة، يغرّم من يقوم بإطعام قرود البابون، أو أي من الكائنات الفطرية، بغرامة تبلغ 500 ريال سعودي.
يهدف البرنامج إلى إعادة التوازن البيئي، وتكوين قاعدة بيانات خاصة بالمؤثرات، وإيقاف الممارسات البشرية الخاطئة، ورفع مستوى الوعي للحفاظ على المفترسات، ودراسة البابون بيئيًا وسلوكيًا، وفحص الأمراض المشتركة بينه وبين الإنسان.