[issue-single-data]

بروتوكول قرطاجنة.. نحو حوكمة عالمية مستدامة للتقنيات الحيوية

بروتوكول قرطاجنة.. نحو حوكمة عالمية مستدامة للتقنيات الحيوية

الذئاب الرهيبة المزعومة: هل خضعت مشاريع إحيائها الوراثي لمعايير بروتوكول قرطاجنة؟

في عصر تتسارع فيه الابتكارات في مجال التعديل الوراثي والتقنيات الحيوية، يبرز بروتوكول قرطاجنة للسلامة الأحيائية كإطار قانوني. هذا البروتوكول، الذي أُقرَّ في عام 2000 ودخل حيز النفاذ عام 2003، ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو بوصلة إرشادية تهدف إلى الحماية من العواقب غير المتوقعة للتدخل البشري في شفرة الحياة نفسها. إنه آلية قانونية ملحقة لاتفاقية التنوع الأحيائي (CBD)، ومهمته الأساسية تتركَّز في تنظيم حركة واستخدام الكائنات الحية المحورة (LMOs) الناتجة عن التقنيات الحيوية الحديثة، خاصة عند عبورها للحدود الدولية، لضمان الحفاظ على التنوع الأحيائي وصحة الإنسان.


أهداف البروتوكول ومجالاته
يستند بروتوكول قرطاجنة إلى مبدأ جوهري هو الاحتياط، أو مبدأ الحيطة والحذر. هذا المبدأ يعني ببساطة أنه عندما يكون هناك خطر محتمل على البيئة أو صحة الإنسان، حتى لو لم يتوفر دليل علمي قاطع على الضرر، يجب اتخاذ تدابير وقائية. ولتحقيق ذلك، يفرض البروتوكول عدة آليات أساسية:

  • الموافقة المسبقة المستنيرة: لا يمكن استيراد أي كائن حي مُحوّر مخصص للإطلاق في البيئة دون الحصول على موافقة مسبقة من الدولة المستوردة، بعد تزويدها بمعلومات وافية حول الكائن ومخاطره المحتملة.
  • مركز تبادل معلومات السلامة الأحيائية (Biosafety Clearing-House): هذا المركز الرقمي بمنزلة مكتبة عالمية مفتوحة للجميع، حيث يتم تبادل البيانات والمعلومات المتعلقة بالكائنات المعدلة وراثيًا، بما في ذلك نتائج تقييم المخاطر، لتعزيز الشفافية والمعرفة المشتركة.
  • بناء القدرات :يُدرك البروتوكول أن الدول النامية قد لا تمتلك الموارد الكافية لتقييم وإدارة مخاطر الكائنات المحورة. لذا، يدعم بناء قدراتها وتشجيعها على تطوير تشريعات وطنية متوافقة مع مبادئ البروتوكول.
    يمتد نطاق هذا البروتوكول ليشمل كل ما هو معدل وراثيًا، من نباتات المحاصيل الأساسية، مثل: الذرة والقطن وفول الصويا، إلى الحيوانات بأنواعها، بما في ذلك الأسماك والحيوانات البرية والداجنة، خصوصًا تلك التي تُنتج لأغراض تجارية أو التي يُخطط لإطلاقها في البيئة.
    المملكة: ريادة وطنية في الالتزام الدولي
    أظهرت المملكة العربية السعودية التزامًا راسخًا بحماية التنوع الأحيائي بانضمامها إلى بروتوكول قرطاجنة في 11 مارس 2007. هذا الالتزام، الذي جاء بموجب المرسوم الملكي ذي الرقم (م/17)، لم يكن مجرد توقيع على وثيقة، بل تبعه عمل دؤوب من قبل الجهات الوطنية، وعلى رأسها اللجنة الوطنية للسلامة الأحيائية. لقد عملت هذه الجهات على صياغة اللوائح التنظيمية ومراقبة تطبيقات التقنيات الحيوية الوراثية بما يتوافق مع الضوابط البيئية والصحية للمملكة.
    وفي خطوة استراتيجية جريئة، أطلقت المملكة الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية في عام 2023. هذه الاستراتيجية لا تهدف إلى دفع عجلة الابتكار في مجالات التقنية الحيوية الزراعية والبيئية والصناعية والطبية فقط، بل تضع السلامة الأحيائية كأحد أعمدتها الأساسية. وتدعو إلى تطوير تشريعات وطنية تضمن الاستخدام الآمن والمستدام للتقنيات الحيوية، بما في ذلك الكائنات المحوَّرة وراثيًا، وهو ما يؤكد التكامل والانسجام بين الرؤية الوطنية والالتزامات الدولية لبروتوكول قرطاجنة.

هل تستطيع تقنيات “إحياء الأنواع” تجاوز البروتوكول؟
في الآونة الأخيرة، شهدنا قفزات نوعية في عالم التقنية الحيوية، خاصة مع ظهور أدوات تحرير الجينات مثل CRISPR-Cas9، التي تتيح تعديلات جينية بالغة الدقة. وما أُثير، مؤخرًا، حول قيام علماء بإنتاج أشبال من خلال تعديل جينات الذئب الرمادي، في محاولة لإعادة إحياء نوع منقرض، يفتح الباب أمام تساؤلات ملحة. هذه المشاريع التي تندرج تحت مسمى “إحياء الأنواع(De-extinction) “، ورغم أنها لا تُنتج نسخًا طبق الأصل، فإن الكائنات الناتجة تحمل جينات مُحوّرة بشكل يجعلها تقع ضمن مفاهيم البروتوكول. هذا يعني أن تقييم المخاطر البيئية والجينية والاجتماعية لهذه الكائنات يصبح ضرورة قانونية قبل أي إطلاق محتمل في النظم البيئية.
هذا التطور يفرض تحديًا على التفسير التشريعي لبروتوكول قرطاجنة، خصوصًا مع تسارع الابتكارات التي تجمع بين علوم الوراثة والتقنيات الصناعية الحيوية، مثل إنشاء أنواع هجينة أو معدلة وراثيًا تُحاكي أنواعًا منقرضة. ويدفعنا إلى التفكير في تطوير أطر تنظيمية مستقبلية، سواء ضمن الاتفاقية الأم أو الاتفاقيات الفرعية الأخرى، مثل: بروتوكول ناغويا، واتفاقية الأنواع المهاجرة.

تعديل وليس استنساخًا ومخاطر محتملة

انطلاقًا من دوره كمظلة وطنية لكل ما يتعلق بالحياة الفطرية، أوضح المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، أن الجِراء التي تحمل صفات الذئب الرهيب والمعلن عن ولادتها، مؤخرًا، ليست عملية استنساخ للكائن أو إعادة تخليق، بل هي تعديل وراثي للذئب الرمادي.
ووفقًا لفريق من الخبراء في المركز، فإن الشركة المنفذة للتجربة الجديدة قامت بإدخال 14 جينًا (بعضها من حفريات الذئب الرهيب، وبعضها من الكلاب) على الذئب الرمادي، ما نتج عنه كائن معدل وراثيًا بنسبة %99.5 من أصل الذئب الرمادي، مع صفات جسدية أقرب

إلى الذئب الرهيب، منها: زيادة الحجم، ولون الفراء الأبيض، وكثافة الذيل، وسماكة الجلد، وحجم الأنياب.
وبيَّن فريق المركز، أن أصل “الذئب الرهيب” (Dire Wolf) يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وكان انتشاره في الأمريكيتين، وانقرض منذ 13 ألف سنة، وأن ما تمَّ إنتاجه ليس استنساخًا للنوع المنقرض، بل هو تعديل وراثي على الذئب الرمادي الموجود حاليًا، باستخدام تقنية (CRISPR-Cas9) الجينية الشهيرة.
وأشار المركز إلى المخاطر البيئية لهذه المشاريع وتأثيرها على التنوع الجيني للكائنات الأصيلة. وأوضح خبراؤه أن السلوك الوراثي والمكتسب للكائنات

المعدلة وراثيًا غير معروف. كما أن تهجينها مع الذئاب الرمادية قد يهدد الأصول الجينية ويؤثر سلبًا في التنوع الأحيائي.
وأكد المركز أن إدخال نوع معدل وراثيًا في البيئة قد يؤدي إلى اختلالات في الشبكة الغذائية، ونقل الأمراض إلى أنواع أخرى، أو التأثير فيها بشكل غير متوقع، مشيرًا إلى أن تقنية (CRISPR-Cas9)، ليست جديدة، ومستخدمة منذ عقود مضت في المحاصيل الزراعية والحيوانات الأليفة، لكن الجديد هو استخدامها مع نوع بري منقرض، وهو ما يفتح أبوابًا واسعة للنقاش الأخلاقي حول حدود التدخل البشري في الطبيعة.

Facebook
X
LinkedIn
WhatsApp

مقالات ذات صلة :

ابحث عن مقـــــال داخـــل الأعداد