«لا نريد أن نتعبها».. على عفوية مُحبٍّ، لا مجرّد موظف، خرجت نبرة الكلمات ودودة وحاسمة في آنٍ. سيارته ذات الدفع الرباعي، تسبح فوق الرمال بحثًا عن «المها». وبين آونة وأخرى، يصرخ مبارك الدوسري «شفناها».. ومن بعيد جدًا، تلوح نقاط شديدة البياض وهي تتحرك رويدًا رويدًا، على خلفية برتقالية من عروق الرمل الهائلة!..
104 أنواع من الطيور تعيش في المحمية
و 18 نوعًا من الزواحف
و 121 نوعًا من النباتات
كأنه حبُّ فلفل!..
يغيِّر مبارك اتجاه سيارته بسلاسة سائق متمرس، لا يضغط على دواسة «البنزين» بقوة، حتى لا يزأر محرّك السيارة، فتنفر المها، مدفوعة بغريزة الفريسة، فنضطرُّ مجددًا إلى «الطرد» وسط أمواجٍ ملتوية ومتداخلة من الرمال!..
يكرر «لا نريد أن نتعبها».. ومن جديد، يتموّج بسيارته بين منحنيات العروق، يميلُ شيئًا فشيئًا ليضع «قاربه الرملي» في مسار موازٍ لخط وجود الربرب الصغير الأبيض.. المها البيضاء!
لكنَّ الربرب ذا القرون الطويلة، يشعرُ بوجودنا.. وعلى ما بيننا من مسافة، وبفعل غريزة الفريسة الخائفة؛ تنفرُ المجموعة البيضاء فارّةً من بشرٍ لم يكونوا يريدون منها أكثر من صورة!
ليس من السهل التقاط صور لغزلان محمية عروق بني معارض، ولا بقرها الوحشي «المها». جولات الصباح والمساء تكرّرت، وكادت تنتهي، وليس في نتائجها إلا مثل ما قال امرؤ القيس قبل أكثر من 1500 سنة، حين شاهد أثر الظباء في أرض حبيبته الراحلة:
ترى بَعَرَ الآرام في عَرَصاتها
وقيعانِها كأنّهُ حَبُّ فُلْفُلِ!
يتناثر ذلك الشيء الشبيه بـ»حبِّ الفلفل» من آثار غزلان الآرام والأدمي، وبقر المها، في مساحة تفوق مساحة جمهورية لبنان. إنه الطرف الغربي الجنوبي من الربع الخالي، وآخر الأجزاء الجنوبية من جبل طويق الآتي من قلب الجزيرة العربية. ودليلانا مبارك الدوسري وزميله فرحان الدوسري، يبذلان جهدهما في جولات الدفع الرباعي، تحت شمس سبتمبر التي ما زالت حارّة.
وفي جولة تقفّي الآثار، توقف «مبارك» فجأة، وركّز نظره على سطح رمل.. وقال إنها «جَرة صَيد».. والـ»جرة» هي الأثر في اصطلاح سكان المناطق المتاخمة لـ»عروق بني معارض». و»الصيد» هو ما نبحث عنه، بدلالته القديمة. ما زالت الغزلان «صيدًا». حتى بعد منع الصيد في المحمية، بقي التعبير كما هو. لكننا لسنا صيّادين يوجهون بنادقهم نحو هذه الكائنات اللطيفة.
نحن مجرد مصوّرين عابرين لهذه الرمال المعزولة عن عالم آكلي اللحوم!
هذه «دِمْنة».. يصرخُ مبارك، وأحيانًا فرحان. كأنَّ حديثهما عن المكان، وآثاره، كتابٌ يشرح شعر ذي الرمة، أو طرَفة بن العبد. والدمنة هي «البعَر» في فهم الرجلين. وهي آثار الديار الخاوية في فهم أسلافنا العرب حين يبكون الأطلال، ويتحسّرون على الراحلين عنها.
حسنًا، كان لدى أسلافنا حسٌّ عالٍ بوجود الكائنات الهائمة في مفازات الصيد. وكان صيدهم إيَّاها جوعًا، كما تفعل السباع والضواري. وفي عصر المدنية العربية الأول، عصر الخلفاء والولاة، استحال الصيد ترَفًا لكبار القوم، وقد ولَّد – بدوره – نوعًا من الشعر يعرفه تاريخ الأدب العربي بـ»شعر الطَّرد»، وهو خاصٌّ بالقصص التي يكتبها الشعراءُ في التعبير عن «بطولات» مطاردة الظباء والبقر الوحشي وصيدها.
وفي كل الأحوال، كان صيدُهم آمنًا بالمعايير الفطرية البيئية، إذ ليس فيه إلا وسائل القنص البدائية من السهام، أو بالطِّراد على ظهور الخيول.
مستوى الأمان كان قائمًا، تبعًا لكون الإنسان الصيَّاد القديم ليس أكثر منمكوّنٍ فطريٍّ، مثله مثل أي كائن صيَّاد فطري آخر. وما يحصل عليه من فرائس يبقى محدودًا، ولا يزيد عمَّا يحصل عليه الذئب أو النمر أو الثعلب، وذلك لا يُخلُّ بتوازن البيئة، كما هو الحال بعد وصول الصيَّاد الجديد، راكب الدفع الرباعي، حامل السلاح الناري، القادر على الطرد وضغط الزناد، وتخزين اللحوم!
الصيد الفاتك!
بدخول ترسانة الصيَّاد الجديد البراري والقفار، فقدت الفرائس أمانها حرفيًا. وفقدت فرص التكاثر الطبيعي، وكادت تنكسر حلقة أساسية في سلسلة الغذاء الفطرية. وبرز مصطلح «الصيد الجائر» تعبيرًا عن الفتك القريب من الإبادة التي تستهدف الأنواع في الحياة الفطرية، وعلى مستوى عالمي.
على المستوى السعودي، تُطلُّ محمية عروق بني معارض، بوصفها موقعًا جغرافيًا بيئيًا فطريًا ذا رمزيةٍ شديدة الدلالة والأهمية، أكثر من كونها نموذجًا تأثّر بنشاط الصيد الجائر خلال العقود الأولى من القرن العشرين، وقد وصل جور الصيد إلى حدِّ اختفاء المها العربي عام في سبعينيات القرن الماضي منها.
وفي الوقت عينه، كون المحمية نموذجًا عالميًا ناجحًا في استعادة مقوّمات التوازن البيئي أيضًا. هذه الاعتبارات الأساسية، هي التي أوصلت محمية عروق بني معارض إلى قائمة التراث العالمي، وجاء إعلان منظمة اليونيسكو، في سبتمبر الماضي، في إشارة مهمة إلى مشروع البناء الكبير في الحياة الفطرية السعودية.
التقاط الأنفاس
بدأت المحمية تلتقط أنفاسها، عام 1986، وكان حيوان «المها» العربي على رأس القائمة في الأهمية. قد يكون هذا الحيوان آخر المختفين من «العروق»، ثم صار أول العائدين. وكان عام 1995م؛ شاهدًا على «إعادة توطين» هذا الكائن المهم، بإطلاق 18 مجموعة من المها في المحمية. ومذ ذاك، صارت «المها» رمزًا أيقونيًا للمحمية بشكل خاص، وللحياة الفطرية في السعودية بشكل عام. وقد نما تعدادها اليوم ليصل إلى 338 رأسًا.
على هذا، لا يمكن لجولات الميدان في المحمية أن تتنازل عن مهمة تصوير «المها»، الكائن الفطري الرمزي السعودي. لكن المساحة هائلة، وتفوق 12 ألفًا و760 كيلومترًا. والدليلان فرحان ومبارك الدوسري، يصعدان بنا إلى «عِرق» ويهبطان بنا إلى «شِقة»، ويمرّان من «حقنة»، ولا شيء يظهر في الأفق إلا «الضبَّان» وغزلان «الريم»، وأحيانًا يصنع الحظ مشهدًا لغزلان الريم، وآثار امرئ القيس!
لكنَّ المكان المترامي على مسافات ليس في أفقها نهاية؛ غنيٌّ بالحياة فعلًا. مناخه الجاف الحارُّ الشحيح في المطر، لم يحل دون انتعاش التنوع الأحيائي. والجزء الغربي من المحمية هو أكبر جزء في الربع الخالي وغني بالتنوع. ووديانها وسهولها الحصوية، والممرات بين الكثبان الرملية تدعم العديد من الأنواع المهددة بالانقراض. وتأتي النباتات واللافقاريات في أساس تكوين مقومات الحياة.
تنوُّع بيئي
تقع المحمية على طول الحافة الغربية للربع الخالي، الصحراء الرملية الرئيسة في آسيا الاستوائية. إنها واحدة من أكبر البحار الرملية المستمرة على يابسة الكوكب. وتحتضن مجموعة من الأنظمة البيئية الأساسية، والبيئة الكبرى فيها هي بيئة كثبان الربع الخالي التي تحتل 9369 كيلومترًا مربعًا، وهو ما يمثل 73.4% من مساحة المحمية.
ثم هناك بيئة جبل طويق، وتبلغ مساحتها 3181 كيلومترًا مربعًا، ثم بيئة الأودية بمساحة 87 كيلومترًا مربعًا، والسبخات 3 كيلومترات مربعة، والسهول الرملية 154 كيلومترًا مربعًا.
هذا التنوُّع جعل منها حاضنًا لأهم الأنواع الفطرية في الأنظمة الرملية، وواحدة من أهم النظم البيئية الصحراوية في المملكة. وتمتد غرب المحمية هضبة ضيقة من الحجر الجيري من الشمال للجنوب، وتشقها عدة شِعاب «أودية جافة» تصب في اتجاه الشرق.
وإلى الشرق من الهضبة تقع كثبان خطية متوازية من الرمال، يصل ارتفاعها إلى 165 مترًا، تحصر بينها ممرات مليئة بالرمل أو الطمي أو الحصى «شقق».
أما المناخ، فيتصف بالجفاف الشديد ودرجات الحرارة العالية والغطاء النباتي الضئيل والمتناثر، ويؤدي الاحترار فيها إلى زيادة حدوث الجفاف مما يسمح بالقضاء على الأشجار والشجيرات
بطيئة النمو، باستثناء بعض الأودية؛ مقابل أعشاب موسمية سريعة النمو تظهر بعد فترات سقوط الأمطار، كما تجري في شِعاب المحمية المياه وقت سقوط الأمطار فقط، ومن أمثلتها وادي خشبي، ووادي سدير، ووادي مريخة، ووادي غِضِي.
وتشكل هذه الوديان أماكن طبيعية خصبة مركزية نمت بها العديد من الأشجار والنباتات البرية، وإلى الآن تمَّ تسجيل 121 نوعًا، تنتمي إلى 35 عائلة نباتية؛ وهو ما جعلها مصدرًا مهمًا وأساسيًا للغذاء داخل المحمية، فهناك 60 نوعًا مستساغًا للحيوانات، و35 نوعًا له استخدامات طبية.
ونزولًا في السلسلة الغذائية، فإن هذه الأنواع النباتية مناسبة لبعض المجتمعات الحشرية العشبية، مثل: الفراشات والمن، وبعض أنواع الذباب والخنافس؛ إذ توفر الأجزاء المختلفة لهذه النباتات من أوراق وثمار ورحيق وجذوع وجذور، احتياطيًا غذائيًا لهذه الحشرات، خاصة أثناء فترات الجفاف.
مقومات البقاء
ونتيجة للظروف المعيشية الصعبة في بيئة المحمية يمكن فقط لبعض أنواع اللافقاريات الحشرية التأقلم معها، فبعض هذه الأنواع لديها مقومات البقاء على قيد الحياة، كالاحتفاظ بالمحتوى المائي لفترات طويلة مثل الخنافس، أو أنها أنواع لاحمة تستخدم كائنات أخرى مناسبة تعيش معها في بيئتها نفسها، مصدرًا للغذاء مثل المفترسات، وأشباه المتطفلات الحشرية، مع الاحتياج البسيط للغذاء النباتي في بعض الأحيان أثناء أطوار حياتها.
اللافقاريات هي أكثر الأنواع انتشارًا في المحمية، وقد تمَّ رصد 664 نوعـًا فيها، تنتمـي إلـى 127 فصيلة فـي 16 رتبة حشرية. وقد وجدت في بيئات المحمية موائل طبيعية ومصدرًا غذائيًا لها، وهي تعيش داخل المحمية أو تتردد عليها. وتعد مصدرًا للغذاء لبعض أنواع الحشرات الرملية مثل بعض أنواع الذباب والخنافس.
كما تعتبر المياه الراكدة أو المستقرة لبعض الوقت، نظامًا بيئيًا أساسيًا لبعض أنواع الحشرات المائية، أو شبه المائية، مثل الرعاشات، أثناء اكتمال دورة حياتها. فعلى الرغم من ندرة مصادر المياه في بيئة المحمية كالأمطار وانعدامها لمواسم عديدة، تمكنت هذه الحشرات من إيجاد مصدر للمياه لاستكمال دورة حياتها، سواء داخل حدود المحمية، أو خارجها.
التمهيد لحياة الكبار
الغطاء النباتي بتنوُّعه، والوجود اللافقاري بتنوُّعه أيضًا؛ مهَّدا الحياة للحيوانات الأخرى، الصغيرة والكبيرة، العاشبة واللاحمة. وهناك 23 نوعًا من الثديات، و104 أنواع من الطيور، و18 نوعًا من الزواحف. وجميعها حرٌّ ومحميٌّ وفي مساحة آمنة تمامًا من تدخل البشر السلبي.
وهو ما يعني أن الأنظمة البيئية تعمل من تلقاء أنشطة كائناتها الفطرية، وعلى السجية التي صمّمها الخالق سبحانه وتعالى. وبمقاييس الظروف الصعبة والمعقدة في بيئات المحمية المترامية، فإن «العروق» باتت «مثالًا استثنائيًا للتطور البيئي والبيولوجي المستمر لمجتمعات النباتات والحيوانات الفطرية». وهذا ما أشار إليه الدكتور «قربان» يوم إعلان التسجيل في اليونيسكو.
منذ عام 1995م والعمل في المحمية ينشط على قدمٍ وساقٍ، لتأمين الحماية الفطرية أولًا، وتنفيذ إدارة بيئية فعّالة؛ وهو ما جعلها – والكلام للدكتور قربان أيضًا – «أغنى منطقةٍ معروفةٍ من الناحية الأحيائية في الربع الخالي». وجعلها كذلك «المكان الوحيد على سطح الكرة الأرضية الذي يعيش فيه المها العربي ضمن نطاقه الطبيعي في قطعان متكاثرة ذاتيًا، كما أنه المكان الأنسب لاختبار ممكنات المها العربي وقدرته على التكيف».
وصولًا إلى السياحة
التكامل الفطري الأحيائي في المحمية، صنع منها موقعًا عالميًا فريدًا للسياحة البيئية. وتحت إدارة فعّالة بدأ العمل – فعليًا – على بناء استراتيجية سياحية في المحمية، ضمن الاستراتيجية الوطنية للسياحة البيئية في المناطق المحمية. وعلى أرض الميدان، هناك نواة عمل قائمة تأسست بها مجموعة مخيَّمات كنموذج أولي يمكن أن يستوعب سيَّاحًا بيئيين.
المشروع ما زال في مرحلة واعدة، ولا يتجاوز قوامه 20 وحدة للنزل البيئية، وقد بدأ إنشاؤه عام 2019، بواسطة شركة سياحية محلية متخصصة، إلا أن الطموح بدأ يتطور بالعمل على إعادة تأهيل الموقع، ليتم تشغيله حسب معايير السياحة البيئية، وعلى نحو مستدام أيضًا.
ميدانيًا، بدأت أولى الزيارات السياحية عام 2019م، إذ بلغ عدد الزائرين 632، سجل 344 زائرًا منهم إقامة في المخيمات داخل المحمية. وبما أن الأمر ليس أكثر من بداية؛ فقد شهدت المحمية 65 زائرًا عام 2020م، ثم 185 زائرًا عام 2021م. وفي العام 2022م، جرى تسجيل 141 زائرًا. وقد لا تبدو هذه الأرقام كبيرة؛ بيد أن الاستراتيجية تتضمّن تحقيق نموٍّ وازن، ولكن ضمن شروط البيئة ومعاييرها. والخطوة الأولى هي ما يجري الآن من عمل على تطوير المخطط الشامل، بهدف الوصول إلى أعداد معينة مستهدفة ضمن فئات مختلفة.
راهنًا، يمكن زيارة المحمية من الأفراد والأسر، عبر حجز موعد زيارة في منصة «فطري» التابعة للمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، وتحديد الغرض من الزيارة، ومن ثمَّ اصطحاب المسؤولين عن الشراكة المجتمعية في إدارة المحمية في جولات مفتوحة على العروق والرمال والوديان، والبحث عن الكائنات اللطيفة في مكان آمن لها.