على مقربة من المدينة النفطية، رأس تنورة، تزدهر طبيعة بحرية خضراء منذ سنوات. غابة قُرم (مانجروف) على مدّ البصر تحاذي شاطئ الخليج العربي. صُممت الغابة لتكون بمنزلة متنزه طبيعي.
لكنّها لم تعد متنزهًا فحسب، بل هي أيضًا مساحة لإنتاج العسل، وكتاب يقرأ فيه الناس الطبيعة على بكريّتها. وهذا كلُّه يُضاف إلى كون المكان موئلًا طبيعيًا لأكثر من 200 نوع من الطيور المهاجرة التي تحطّ رحالها لتستريح أجنحتها، قبل استئناف الطيران إلى هدفها الآخر.
مع المبادرات
في عام 2018، أطلقت شركة أرامكو السعودية مبادرة لزراعة مليون شجرة قُرم في مناطق أعمالها. وقد تواءمت هذه المبادرة، مع مبادرة لوزارة البيئة والمياه والزراعة التي تستهدف زراعة 10 ملايين شجرة قُرم في مختلف المناطق الساحلية.
وقد بلغ إجمالي ما زرعته شركة أرامكو السعودية وحدها حتى نهاية عام 2021 أكثر من 4.3 ملايين شجرة في مواقع مختلفة على سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر. وشارك في المبادرة آلاف من المتطوعين من موظفي الشركة والمجتمع المحلي، مستفيدة مما أنشأته من مشاتل خاصة بأشجار القُرم في خليج رحيمة وغيره من السواحل الأخرى.
وفي عام 2021، نظّمت الشركة حملة بيئية لإعادة تأهيل السواحل بأشجار القُرم من خلال جمع أكثر من 500 ألف بذرة من غابات القُرم في محافظة القطيف، وزراعتها في مشاتل خاصة بوزارة البيئة والمياه والزراعة في المنطقة الشرقية، وفي سواحل رأس أبو علي، ومنطقة الفريع، بعدما أنهى مركز أبحاث الثروة السمكية في القطيف تجربة ناجحة لزراعة البذور مباشرة في الموقع دون الحاجة لإنتاجها في المشتل.
التزام بالاستدامة
كان الهدف الأساس الإسهام في عزل الكربون، وتعزيز الالتزام بالاستدامة طويلة الأمد، وحماية واحدة من آخر غابات القُرم التي نمت بشكل طبيعي في المنطقة الشرقية. وقد عملت شركة أرامكو على حماية 63 كيلومترًا مربعًا من الموائل البحرية، التي توفر مناطق عازلة بين البر والبحر، تشتمل على أشجار القُرم، والمستنقعات المالحة، والأعشاب البحرية، التي تشكل بأجمعها أحواضًا مهمة لتكاثر مختلف الأحياء المائية، وتحتضن أكثر من 100 نوع من الطيور التي تزورها سنويًا من مختلف أصقاع العالم، ومن بينها طيور الفيوب والكروان التي تأتي من سيبيريا.
أول محمية
وبعد قرابة ثمانية أعوام من التخطيط والتنفيذ اكتمل تطوير أول متنزه لأشجار القُرم في المملكة العربية السعودية، وافتتحتها أمام الزوار في 11 يناير 2021، مستهدفة تثقيف أفراد المجتمع بهذا النظام البيئي سريع التأثر، وتعزيز الوعي لدى السكان، من أطفال المدارس إلى الأسر والسائحين والزوار.
تتميز المحمية بممر خشبي طويل يسمح للزوار بالتنزه ومشاهدة الغابة والحياة البرية عن قرب. كما يسمح للزوار بفرصة مشاهدة الجهود في المحافظة على البيئة الطبيعية، بما يسهم في رفع مستوى الوعي والاهتمام بها.
كما جُهّزت بمختبر ميداني في كامل الموقع بجميع الأدوات اللازمة لدراسة غابات القُرم والتنوع البيولوجي الساحلي. وجُهّزت أيضًا بقاعة أبحاث خاصة بهذه الشجرة، وبمشتل لرعاية وتوفير شتلات أشجار القُرم، وذلك للعمل على توسيع حجم الغابة، والمحافظة على سلامتها واستدامتها للأجيال القادمة.
عسل.. البحر
في عام 2020، أطلقت وزارة البيئة والمياه والزراعة مبادرة إنتاج العسل من أشجار القُرم باعتبارها مراعي نحلية ومصادر طبيعية لإنتاج عسل عالي الجودة، خصوصًا أن أشجار القُرم لا تتعرض للمبيدات الحشرية أو تدخل الإنسان بشكل مباشر في ريها أو تسميدها أو العناية بها.
ويُعتبر التوقيت عاملًا مهمًا في تغذية عسل القُرم، حيث إن أزهار أشجارها تبدأ في التفتح من منتصف مايو إلى أوائل يوليو، وهي الفترة التي يندر فيها وجود أزهار متفتحة في المنطقة الشرقية في هذا الوقت من العام.
وبعد 3 سنوات من إطلاق المبادرة، تم إنتاج العسل المستخلص من أشجار القُرم للمرة الأولى، حيث نجحت خلايا النحل في إنتاج كميات كبيرة من هذا العسل الذي يتميز بجودته العالية وفوائده الصحية المعروفة، وأصبح الأكثر طلبًا في أسواق المنطقة الشرقية، بعد أن كان من أندر أنواع العسل.
الشورة
على الرغم من أن مياه البحر في الخليج العربي تحتوي على نسبة ملوحة عالية مقارنة بالمحيطات والبحار حول العالم،
فإن معدل نمو أشجار القُرم فيها يبلغ نسبة %90، مع ملاحظة التباين الشديد في درجات حرارة المياه، والأوكسجين الذائب في الماء.
أشجار المنجروف هي الأعلى ارتفاعًا من نوعها والأكثر كثافة للنباتات، فهي تشكل غابات مختلفة تمتد لأكثر من 7 كيلومترات بين سواحل القطيف والدمام.
والنوع المتوفر في ساحل الخليج، حسب الأدلة العلمية لدى المركز، هو النوع المعروف باسم الشورة (Avicennia marina). وقد ألمحت مخطوطات أثرية تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد إلى وجود أشجار القُرم بشكل واسع منتشرة على سواحل المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهذه الغابات قد نشأت بشكل طبيعي دون أي تدخل بشري.
جهود سعودية
عالميًا، أخذت غابات القُرم تتناقص بنسبة %1 إلى %2 سنويًا، وهو معدل يفوق التناقص الحاصل للشعب المرجانية والغابات الاستوائية.
وأمًا محليًا، فخليج تاروت – على سبيل المثال – وهو يعد من أكثر الأماكن التي تحتضن غابات القُرم في المنطقة الشرقية، فقدت %47 من الغابات بسبب الردم والتجريف والتوسع العمراني الذي طال المناطق الساحلية خلال العقود الأربعة الماضية، فشكّل ذلك ناقوس خطر، جعل المملكة العربية السعودية تسارع لاحتواء هذه المشكلة وتعمل على تفعيل برامج استزراع القُرم على امتداد سواحل المملكة.
وعبر شراكة بين المركز الوطني لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر والمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية ووزارة البيئة والمياه والزراعة وأرامكو السعودية؛ وُضِعت الخطط العملية لتنفيذ برامج لاستعادة غابات القُرم في شواطئ المملكة.
وحتى عام 2021 حققت المملكة نجاحًا كبيرًا في زراعة 14.6 مليون شجرة قُرم، على امتداد سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر، وذلك ضمن مجموعة من مشروعات الاستزراع والتشجير للبيئات الساحلية بهدف تنمية الغطاء النباتي وتحقيق الاستدامة البيئية، وتعزيز التنوع الأحيائي بالمناطق الساحلية.