الأخطبوط المُقلِّد، المعروف علميًا باسم (Thaumoctopus mimicus)، شاهد بارز على عجائب التنوع الأحيائي البحري. اكتُشف هذا الحيوان الرخوي في عام 1998، وقد أسر قلوب العلماء وعشاق الطبيعة بقدرته الاستثنائية على تقليد مجموعة متنوعة من الحيوانات البحرية الأخرى. ويستطيع الأخطبوط التنقل بسلاسة بين أشكال متعددة، وهو ما يُميِّزه كنوع فريد في عالم الحيوان.
مظهر خارجي
الأخطبوط المُقلِّد نوعٌ صغيرٌ نسبيًا، يصل طوله عادةً إلى حوالي 60 سم (قدمين)، بما في ذلك أذرعه النحيلة. هذه الأذرع الثماني طويلةٌ ورفيعةٌ بشكل ملحوظ، بقطرٍ يُضاهي قطر قلم رصاصٍ في أوسع نقطةٍ لها. يمكن أن يصل طول الجسم المركزي، أو الوشاح، إلى 58 ملم، في حين يمكن أن تمتد الأذرع نفسها إلى ما بين سبعة وعشرة أضعاف طول الوشاح.
في حالته الطبيعية، يظهر الأخطبوط المُقلِّد بلون بني فاتح، وهو ما يُمثل تمويهًا ممتازًا ضد الركائز الموحلة أو الرملية التي يعيش فيها عادةً. ومع
ذلك، فإن هذا المظهر البسيط يُخفي قدرته المذهلة على التحول. عندما يتعرض للتهديد أو الصيد. ويمكن للأخطبوط أن يتبنى بسرعة نمطًا أكثر وضوحًا من الخطوط البيضاء والبنية المتناوبة. بالإضافة إلى ميزاته الفريدة، توجد نتوءات صغيرة تشبه القرن تقع فوق كل عين من عينيه. تشمل الخصائص المميزة الأخرى علامات بيضاء طولية غير منتظمة على عباءته الظهرية، وشكل “U” أبيض على الجزء الخلفي من عباءته، وأشرطة وبقع بيضاء منتظمة على طول ذراعيه.
جلد الأخطبوط المقلِّد ناعم نسبيًا، ويتميز بحافة من النتوءات الصغيرة تُسمَّى “الحليمات حول العباءة”، وحليمات مزدوجة مدببة بشكل حاد تقع فوق كل عين.
ويشير هذا المزيج من التلوين الأساسي والقدرة على تغييرات النمط السريعة واللافتة للنظر إلى مستوى متطور من التحكم في الخلايا المتخصصة التي تحتوي على الصبغة في جلده، والمعروفة باسم (chromatophores) “الخلايا الحاملة للألوان”، وهي تتجاوز بكثير التمويه البسيط، وتسمح له هذه القدرة المزدوجة بالاندماج بسلاسة مع بيئته عند الضرورة وتقليد الأنواع الأخرى بجرأة عندما يكون ذلك مفيدًا.
ناعم ولاحم ويقلِّد حتى عدوه من أجل الحماية
ناعم.. ولاحم
الأخطبوط المقلِّد حيوان لاحم، يتكوَّن نظامه الغذائي – بشكل أساسي – من الأسماك الصغيرة وسرطان البحر والديدان. وغالبًا ما يرتبط تفضيله لأماكن وجوده بوفرة هذه الفرائس في مثل هذه البيئات. وهو في قائمة أقل الأنواع تهديدًا في القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض التابعة للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN).
ومن أجل تحديد موقع غذائه والتقاطه، يستخدم الأخطبوط المقلِّد مجموعة متنوعة من تقنيات الصيد والبحث عن الطعام. أذرعه الطويلة النحيلة ماهرة في الوصول إلى الشقوق الضيقة داخل التكوينات المرجانية وفي ثقوب الرمال، حيث يستخدم (ممصاته) لاصطياد القشريات الصغيرة. إلى جانب البحث عن الطعام، لُوحِظ أن الأخطبوط المقلِّد يطارد الأسماك
الصغيرة ويصطادها بنشاط، وهو ما يدل على قدراته كمفترس ماهر. ربَّما يكون الأمر الأكثر لفتًا للانتباه هو أنه يستخدم التقليد العدواني كاستراتيجية للصيد، على سبيل المثال، عن طريق تقليد مظهر وحركات السلطعون لخداع القشريات غير المنتبهة للاقتراب، فقط ليتم اصطيادها. يشير هذا السلوك إلى مستوى من التعقيد المعرفي الذي يتجاوز آليات الدفاع البسيطة. إضافة إلى ذلك، يُظهر الأخطبوط المقلِّد سلوكًا رائعًا في البحث عن الطعام تحت الأرض، وهو قادر على التنقل بالكامل داخل الأنفاق، والدخول من خلال فتحة واحدة والخروج من أخرى على بعد متر واحد. كما أنه يستخدم أطراف ذراعيه لفحص الثقوب ويفتح هيكله الشبيه بالشبكة بين ذراعيه لاصطياد الفريسة التي قد يتم إزعاجها.
الصيد في الماء العكِر
تعدُّ منطقة المحيطين الهندي والهادئ موطن الأخطبوط المقلِّد، وهي مساحة شاسعة تشتهر بتنوعها الأحيائي الغني. يمتد نطاق توزيعه من البحر الأحمر وخليج عمان في الغرب إلى المياه المحيطة بكاليدونيا الجديدة في الشرق، ومن خليج تايلاند والفلبين في الشمال إلى الحاجز المرجاني في الجنوب. ومع ذلك، تركَّزت غالبية المشاهدات والأبحاث الموثقة في إندونيسيا، ولا سيَّما قبالة سواحل سولاويزي، حيث تم اكتشاف هذا النوع أوَّل مرَّةٍ.
يعيش الأخطبوط المُقلِّد بشكل أساسي في المناطق ذات الركائز الرملية أو الطينية على أعماق ضحلة نسبيًا، عادةً أقل من 15 مترًا، على الرغم من أنه رُصد على عمق يصل إلى 37 مترًا. يُظهر تفضيلًا واضحًا لقاع البحر العكِر والموحل، وهو ما يساعد على الأرجح في تمويهه نظرًا للون البني الفاتح القريب إلى البيج.
وعلى عكس العديد من أنواع الأخطبوط الأخرى التي تفضل مأوى الشعاب المرجانية، يوجد الأخطبوط المُقلِّد بشكل أكثر شيوعًا في مصبات الأنهار. ويُعدُّ اختيار الموطن هذا غير معتاد إلى حد ما بالنسبة إلى الأخطبوطات، ومن المحتمل أن يعكس أنواع الفرائس المتاحة في هذه البيئات، بالإضافة إلى فعالية دفاعه المُقلَّد في المناطق المفتوحة والأقل هيكلية، حيث قد يكون التمويه التقليدي أقل كفاية. ومن المعروف أيضًا، أن الأخطبوط المُقلِّد قادر على إنشاء جحوره الخاصة في الرواسب اللينة باستخدام أذرعه الطويلة، أو الاستفادة من الجحور الموجودة التي شيدتها الكائنات البحرية الأخرى، مثل: السرطانات والأسماك والديدان.
الأخطبوط المُقلِّد “رائع” في صيد الماء العكِر
دور بيئي
يؤدي الأخطبوط المُقلِّد دورًا متعدد الجوانب في نظامه البيئي البحري. وبصفته مفترسًا، يُسْهِم في تنظيم أعداد الأسماك الصغيرة والقشريات، وهو ما يُساعد في الحفاظ على التوازن البيئي في موطنه.
وفي المقابل، يُعدُّ أيضًا فريسة للحيوانات البحرية الأكبر حجمًا، ومن بينها الأسماك العظمية وثعابين البحر وأسماك القرش، مُشكّلًا حلقة وصل في الشبكة الغذائية.
ومع ذلك، يكمن الجانب الأهم في دوره البيئي في قدرته المذهلة على المحاكاة. فمن خلال تقليده للحيوانات السامة، مثل: أسماك الأسد وثعابين البحر والأسماك المفلطحة السامة كسمك موسى المخطط، يُثبّط الأخطبوط المُحاكي الحيوانات المفترسة المُحتملة بفعالية.
سر التسمية
يتميز الاسم العلمي (Thaumoctopus mimicus) بدقته الوصفية؛ إذ يعكس مباشرةً أبرز سمات هذا المخلوق الرائع. أطلق نورمان وهوتشبيرغ اسم جنس (haumoctopus) على هذا النوع
عام 2005. وهو مشتق من الكلمة اليونانية “ثاوما” التي تُترجم إلى “رائع” أو “مُدهش”. ويشير هذا – بلا شك – إلى قدرة هذا الأخطبوط المذهلة وغير المسبوقة على تقليد أنواع بحرية متعددة، وهو سلوكٌ كان مُدهشًا بحق عند اكتشافه.
واسم النوع (mimicus) لا يقل دلالة. وهو مشتق من الكلمة اللاتينية (mimicus) والكلمة اليونانية (mimikos)، وكلاهما يعني “ما يتعلق بالتقليد” أو “مُقلِّد”.
ومع ذلك، وعلى الرغم من أنه ليس سامًا بذاته، فإن أبرز ما يُميّزه هو قدرته على محاكاة مجموعة متنوعة من الحيوانات البحرية الأخرى، ومنها: ثعابين البحر السامة، وأسماك الأسد، والأسماك المفلطحة السامة، بالإضافة إلى مخلوقات أخرى، مثل: قنديل البحر وسرطان البحر.
كما أن تكيُّفاته الفريدة تُؤثِّر في سلوك الأنواع الأخرى. وعلى الرغم من قدراته المذهلة، يواجه هذا الأخطبوط تهديدات مُحتملة من التلوث والصيد لأغراض تجارة الأحواض المائية. ويُعدُّ إجراء المزيد من الأبحاث وجهود الحفظ، أمرًا بالغ الأهمية لضمان استمرار بقاء هذا المثال الاستثنائي في المحيطات.
