“أبرق نعام، وادي الراك، خشيم الذيب، حمضة، الطلحة، سائلة غزال..” أسماء مواقع تتكرر في حديث عفوي لأحد كبار السنّ حاملة في ثناياها الكثير من الذكريات التي رصدتها ذاكرته خلال سنوات عمره التي تجاوزت 8 عقود.
المستمع لهذه الأحاديث قد لا يتجاوز اهتمامه القصص والمواقف، ولكن القريب من قطاع الحياة الفطرية يلاحظ كثافة وجود عناصرها في ثقافتنا. ولم يقتصر الأمر في حديث ذلك الشيخ على أسماء المواقع، بل تجاوزه إلى معرفة عميقة بعناصر الحياة الفطرية، سواء كانت كائنات أو أنظمة، والفروقات بينها قد تصل أو تتجاوز معرفة بعض المتخصصين.
حجم هذه المعرفة عن مكونات البرية في المملكة تؤكد أنه لم يرتبط إنسان على وجه البسيطة بالحياة البرية كما ارتبط بها إنسان هذه الأرض. هذا الارتباط الوجودي والوجداني فرضته ظروف المجتمعات البشرية في شبه الجزيرة العربية، التي جعلت من هبات الطبيعة أهم أسباب بقاء الإنسان، لاعتماده عليها في غذائه ودوائه وسكنه ولباسه وفي كل شؤون حياته، في حين قد ترى فيها مجتمعات أخرى منافسةً لمحاصيلهم الزراعية ومواشيهم.
وأكسبت هذه الأهمية عناصر الحياة البرية لدى سكان هذه البلاد على مر العصور تقديرًا فريدًا، نتج عنه الكثير من الأعراف والتقاليد والقوانين الصارمة وآليات تطبيق فعالة باعتبارها موارد حياة يجب المحافظة عليها والعمل على استدامتها، وانعكس هذا التقدير على الثقافة عمومًا، وعلى اللغة على وجه الخصوص، فجعلوا منها رموزًا ونماذج لأجمل الصفات، وحمل أبناؤهم ومدنهم وقراهم ومعالمهم أسماء تلك الكائنات تيمنًا بها حينًا أو تشبهًا بها تارة أخرى.
لقد أسهمت الحياة الفطرية في إثراء اللغة العربية واشتقاقاتها وسياقاتها الدلالية من خلال تعدد المرادفات لكل عنصر، وتوظيفها في الشعر والأمثال والقصص. وكما اكتسبت الكائنات الفطرية صورًا نمطية في الوجدان العربي يتفاوت بين الإيجابية والسلبية. فتكاد لا تخلو قصيدة عربية من وصف أو استعارة من عنصر فطري يقصد بها حينًا الغزل حين يذكر المها أو الغزال، وحينًا المدح عندما يشار إلى النمر أو الذئب، وأحيانًا الهجاء عند الإشارة للغراب أو الثعلب.
هذا التأثير الهائل والحضور الطاغي للحياة الفطرية في حياتنا يؤكد أننا مرتبطون بها ارتباطًا عضويًا ممتدًا منذ الأزل، وأن أهميتها لا تقتصر على الجوانب المادية فقط، بل تتجاوزها إلى الجوانب المعنوية كالثقافة والهوية، وبالتالي فإن أي تهديد لها يعد تهديدًا للوجود بكل أبعاده.